اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
انطلاقاً من مفهوم الآية الكريمة: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} فإنه بالإضافة إلى الملائكة المسبحة بقدسه، يوجد الكثير من آياته ومخلوقاته التي تأتمر بأمره، منطبقاً عليها هذا المفهوم الذي يندرج تحته ما لم يتوقعه الإنسان من النكبات والجائحات والآفات المهلكة، ويشمل ذلك الريح العقيم أو الصرصر والغرق والصيحة والخسف والزلازل والأعاصير المدمرة والأوبئة الفتاكة، وما في حكمها من الخطوب والمصائب التي يصعب حصرها.. كما أن هذا الإنسان لسوء صنيعه تتوالى عليه المحن والفتن في مختلف الأزمنة والأمكنة، حتى إنه كلما ودع محنة أو فتنة استقبل الأخرى.
وعندما يتعرض الإنسان لجائحة أو نكبة فإنه يبذل الأسباب الممكنة لمواجهتها، علاوة على اللجوء إلى الله والتضرع إليه بالدعاء والاستغفار، مع الأخذ في الحسبان أن التوكل يعتبر من اللزوميات اللازمة والثوابت الثابتة.. أما بالنسبة للصبر فإن الصبر المطلوب هو الذي يعتمد مدلوله وسريان مفعوله على نوعية المكروه الحاصل، فما كان فيه حيلة فالاضطراب دواؤه، وما لا حيلة فيه فالاصطبار شفاؤه، وكما قال الشاعر:
كن واثقاً بالله سبحانه
فهو الذي يُصرّف عنك الخطوب
وقال آخر:
لا تجزعنّ إذا نابتك نائبة
واصبر ففي الصبر عند الضيق متسع
إن الكريم إذا نابته نائبة
لم يبدُ منه على علاته الهلع
والأوبئة التي يتكرر حدوثها من زمن إلى آخر، تكون عادة على هيئة جائحة مرضية، يغلب عليها طابع قابلية العدوى وسرعة الانتشار وقوة الفتك، ومهما تكن أسبابها ومسبباتها، ة فإنها جند من جنود الله، وقوة إلهية خفية تقتضيها حكمته، وتتحكم فيها مشيئته، وبعضها يمكن أن يكون من صنع الإنسان، ولكن قد تقتضي إرادة الله أن يخرج هذا السلاح الوبائي عن سيطرة صاحبه أو الذي يستخدمه، حيث إنه أقدم على استخدامه ضد غيره، فكان هو أحد ضحاياه منقلباً السحر على الساحر، كما هو الحال بالنسبة لبعض أسلحة الدمار الشامل المطورة التي إذا ما إن فلتت من عقالها قد تصبح وبالاً على مطلقها والمتسبب فيها، متخذة شكلاً من أشكال الأوبئة التي يضعف ويعجز أمامها الإنسان في حين أن خالق الخلق الواحد الأحد الذي لا ينازع في خلقه، وليس له شريك في ملكه، هو الذي يتحكم في نتائجها وتداعياتها، وما تؤول إليه مآلاتها، وقد قال الشاعر:
من عارض الله في مشيئته
فما لديه من بطشه خبر
لا يقدر الخلق باجتهادهم
إلا على ما جرى به القدر
ووباء كورونا الذي يكتسح العالم هذه الأيام مهما يكن مصدره، فإنه يعتبر أحد هذه الأوبئة وأكثرها قابلية للعدوى وأسرعها انتشاراً وأشدها فتكاً، وتحت وطأة هذا الوباء العالمي الوافد الذي اجتاح الكثير من دول العالم، وظهرت إرهاصاته في المملكة، أصبحت الدولة على المحك والمواطن تحت المجهر، نظراً لخطورة الوباء وقابليته للعدوى وسرعة انتشاره.. الأمر الذي باتت معه مواجهته تُشكل امتحاناً للدولة من جهة، والمواطن من جهة أخرى، خاصة وأن المملكة تحتضن الحرمين الشريفين وذات مساحة مترامية الأطراف، ويوجد بها كثافة سكانية، مما يتطلب جهوداً استثنائية من قبل الدولة، ووعياً فردياً وانضباطاً جماعياً من قبل المواطنين والمقيمين لاحتواء هذا الوباء وقطع الطريق أمامه.
وترتيباً على ذلك فقد عملت المملكة على التعامل مع الوباء بمسؤولية متناهية، حرصاً منها على السيطرة عليه والحدّ من انتشاره، متخذة الكثير من الخطوات الاستباقية والإجراءات الاحترازية التي تهدف إلى احتوائه والتقليل من الإصابة به عن طريق كبح تفشيه ولجم عدواه من أجل حماية المواطنين والمقيمين.
والمتتبع للإجراءات الوقائية التي اتبعتها المملكة يتضح له بجلاء أن الدولة بتوجيه من قيادتها الرشيدة، وممثلة في وزاراتها المعنية ومؤسساتها المختلفة كانت سباقة للتعامل مع الوباء عبر التخطيط له والتحسب لما قد ينجم عنه من أضرار مع الإعداد والاستعداد لمواجهته بجميع الإمكانات البشرية والطبية والاقتصادية وعلى جميع الأصعدة والمستويات.
ومما يبعث على الطمأنينة ويؤكد حسن الأداء أن الإجراءات الاحترازية والأوامر التوجيهية والتنفيذية المنظمة لها أتت في تدرج منهجي وتسلسل منطقي من مرحلة إلى أخرى كأنها أشبه ما تكون بمعالم على الطريق يقود بعضها إلى بعض، ومحطات تفضي كل واحدة إلى التي تليها بدءاً بتعليق الدخول إلى المملكة لأغراض العمرة والزيارة وعدد من إجراءات التعليق المشابهة، ومروراً بتعليق الدراسة والبرامج الدعوية وحلقات تحفيظ القرآن وتعليق السفر مؤقتاً وإيقاف الرحلات الجوية والبحرية ومنع التجمعات الجالبة للعدوى بأنواعها، وتعريجاً على غلق الحدود، وتعليق جميع رحلات الطيران الداخلي ووسائل نقل معينة، وإغلاق الأسواق والمجمعات وما في حكمها، وصولاً إلى تعليق عمل الموظفين ومنع الصلاة في المساجد وحظر التجول الجزئي، ناهيك عن حالات العزل والحجر والإجراءات المتعلقة بذلك.
ودعماً للإجراءات الوقائية وضماناً لتنفيذها على الوجه المطلوب بالشكل المحسوب اتخذت وزارة المالية إجراءات وتدابير مالية عاجلة من خلال دعم المصارف والمؤسسات المالية وتخصيص موازنة للطوارئ، علاوة على التسهيلات المختلفة ومبادرات الإعفاء والتمكين لبعض أصحاب الأعمال، وكذلك تأجيل دفع وتحصيل بعض الرسوم، وتمويل قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة بما يضمن نجاح الإجراءات الوقائية والتصدي للوباء.
وبالرغم من أن وزارة الصحة تشكل المحور الذي تتمحور حوله جميع الجهات التي تكافح الوباء، فإنها تقف في الخط الأمامي بالنسبة للجميع عبر إجراءاتها الوقائية ونشر الوعي بين المواطنين والمقيمين، تساندها في ذلك الجهات ذات العلاقة سواء في مجال اتخاذ الإجراءات وفرضها أو التوعية اللازمة للحد من هذا الوباء والقضاء عليه.
وبقدر ما أدت الدولة دورها وتحملت مسؤوليتها مبدعة في إدارة الأزمة بحكمة، ومتحوطة لكل شيء بعيداً عن الارتجالية أو ترك الأمور للمصادفات بقدر ما رمت بالكرة في ملعب المواطن الذي يتحتم عليه أن يعي مسؤوليته وينهض بطرف المعادلة الثاني من خلال المحافظة على صحته ومراعاة أمنه الصحي والوطني، متحلياً بالطاعة والانضباط، وملتزماً بالنظافة والثقافة الصحية والوعي الصحي، والحس الأمني والوطني مع التخلي عن العادات التي تجلب له العدوى وتضعه في مرمى الوباء.
ويتعين على كل مواطن أن يكون مسؤولاً عن صحته وصحة الآخرين، وأن يلتزم بتعليمات وزارة الصحة حول مكافحة الوباء والوقاية منه، مدركاً بأن ذلك يتطلب التخلص من بعض العادات، والتمسك بالنظافة التي تعتبر صحة بحد ذاتها، والصحة هي الثروة، كما أن النظافة من الدين ومن الوطنية وكل صفة حميدة تقترن بها النظافة، وعلم الإنسان وثقافته إن لم تؤيدها ثقافته من الظاهر والباطن يكون ذلك كمن يضع العلم والثقافة في إناء قذر.
وقد آن الأوان للكوادر الطبية، والقوات العسكرية والأمنية أن تخوض معركة الوقاية ضد الوباء القاتل -وهي تفعل ذلك- الذي بات يشكل الشغل الشاغل لدول العالم، وذلك للتأكد من تطبيق الإجراءات وتنفيذ التعليمات على الصعيدين الصحي والوقائي، وفي مقدمتها التوجيهات والأوامر السامية لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، بشأن فرض حظر التجول الجزئي، ووقاية الله فوق كل وقاية، وحمايته هي الحماية ولن يخذل من بذل الأسباب وإليه أناب.