أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الحياة جامعة ومفرقة بين البشر لا تصفو لأحد من النَّاس ولا يكتمل فيها أمر، لأن الصفو والكمال والتمام ليس من شأنها ولا من صفاتها، كل من يعيش على هذه الأرض المعمورة مصيره إلى الفناء لكل شيء ابتداء وانتهاء كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} سُورة آل عمران آيه 185.
وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (26- 27) سورة الرحمن.
وقال جل شأنه- {منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} سورة الأحزاب آيه 23.
وهذه الآية الكريمة نزلت في الصّحابة الكرام -رضي الله عنهم- الَّذين وفوا بعهدهم وأيمانهم وجاهدوا في سبيل الله، فمنهم من قضى أجله المحترم شهيداً ومنهم من بقي ينتظر الموت على ذلك العهد ولم يبدلوا تبديلاً، وكما قال علماء التّفسير: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب فإن هذه الآيات تنطبق على الرِّجال المؤمنين في كل عصر ممن صدق عهده مع الله فمات على ذلك أو ينتظر أجله المحترم ولم يبدل تبديلاً فهو من الصَّادقين - إن شاء الله.
إيماناً بقضاء الله وقدره تلقيت خبر وفاة الشَّيخ - عبدالله بن محمّد بن عبد العزيز الشِّهيِّوين صاحب الخلق الرّفيع والقلب الكبير عبر رسالة هاتفية مساء يوم الأحد 5 - 8 - 1441هـ الموافق 29 - 3 - 2020م.
وأن هذا مصير كل إنسان منَّا في هذه الحياة الدّنيا - لا بُدَّ من الرَّحيل مهما طال عمره وسار وجال على هذه الأرض المباركة لا بُدَّ من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء - رحمه الله رحمة واسعة واسكنه الله فسيح جناته.
لقد قال الشّاعر الحكيم:
كذلك الموت لا يبقى على حدٍ
مدى الليالي من الأحباب محبوباً
يحتل -أبو بندر- مكانة عالية في نفسي فقد دفعني إلى الكتابة عنه وعن مآثره العطرة ولو بشكل يسير وأعلم يقيناً أنها لا تفي حقه أنه مدرسة في الأخلاق والتواضع والحرص على الدين والبشاشة والبر والإحسان، فقد عرف عنه أنه -رحمه الله- قليل الكلام في المجالس إلا بما يرضي الله وإذا تحدث تحدث بعمق، صاحب تجارب مفيدة في هذه الحياة فهو من قلائل الرِّجال ذوي الخصال الحميدة، فأنا لا أبالغ إذا قلت إن [عصاميته] جامعة كبيرة في علوم متعددة - فقد خدم دينه ومليكه ووطنه في الميدان الحكومي - بوزارة الصِّحَّة من عام 1379 هـ الموافق 1959م إلى تقاعده في عام 1418هـ الموافق 1998م، وكانت محطات عمره كلها تجارب عن وهج من الذكريات المختلطة بشيء من ملح الحياة في دروبها المضيئة وقليل من حلو الأيَّام، حيث إنه يملك رصيدًا وافرًا عن مسيرة النَّهضة الصِّحيَّة في بلادنا المترامية الأطراف بحكم أنه يعمل بهذا القطاع الحيوي المهم منذ بدايات مراحل التطور وعن القفزات التي مر بها وعن تاريخها الحديث وعن تجارب زاخرة بالعمل - فقد أوكلت إليه مهام وملفات عدة تجاوزت في كثير من الأحيان حدود عمله المباشر.
إلى جانب أنه تنقل في أقسام عدَّة حسب السّلم الوظيفي حتى استقر به المقام في قسم المتعاقدين بالوزارة لفترة طويلة.
كان أبو بندر -رحمه الله- يمتاز بإخلاصه وتفانيه في العمل، فهو يعتبر من الرعيل الأول بالوزارة وكان يعمل بجد ونشاط وهمَّة وأمانة إلى جانب أنه يتحلى بشخصَّية قيادية وإداريَّة فذة وبروية عميقة وإدراك كبير لمختلف الأمور إلى جانب ثقافته الإداريَّة وأسلوبه الشّيق وحسن تعامله مع الصِّغير والكبير من كافَّة الكوادر الإداريَّة والطبية والفنية ولين عريكته وقدرته على تطوير ورفع مستوى الأداء الإداري لمنسوبي الإدارة التي يعمل بها منذ التحاقة بالميدان الحكومي بالوزارة. إلى جانب أنه يخاطب عقولاً نيرة.. وألباباً واعية، وقلوباً صافية.. وآذاناً صاغية.. ونخباً حاذقة.
كان -رحمه الله- ذو شخصَّية مبتكرة للجديد في العمل والقدرات الموظَّف على تطويرها وتحسينها في ذلك الوقت.
كان -رحمه الله- يدعم ويشجع كل موظَّف حديث تحت إدارتَّه على الأداء الجيِّد كما كان له السبق في دعم المراكز الصِّحيَّة في ذلك الوقت بكل الكوادر الطبية والفنية المتاحة إلى جانب تشجيعهم على مضاعفة العمل بالجد والإخلاص والأمانة وقد تخرج على يدية عدد من الموظَّفين الذين تولوا مسؤوليات جسام فيما بعد فقد استثمر علاقاته بشكل جيد وأسلوب حضاري راقٍ مع كافَّة الكوادر الإداريَّة والطبية والفنية والخدمية.
فهذه الصفة جعلته محط انظار المسؤولين بالوزارة، وذلك من خلال تعامله مع زملائه بطريقة حضاريَّة راقية وكانت له مواقف طريفة ومواقف محرجة خلال رحلاته الرسمية وزياراته الميدانية خارج البلاد وداخله.
كان -رحمه الله- له مواقف مشرفة مع الأسرة في دعم الأبناء والبنات على مواصلة الدِّراسة، فكان خير موجه وخير ناصح ومرشد بأسلوبه الحضاري الرائع، فهو دائم يدعم الأعمال الإنسانيَّة ويحرص كل الحرص على الحضور الاجتماعيِّ وعلى إصلاح ذات البين وعلى مشاركات الأقارب والجيران والأحبة أفراحهم وأتراحهم وعلى حرصه الشديد على صلة الرحم ويزور القريب والبعيد يكثر السؤال عن أوضاع الأسرة وعن أحوالها المادية والصحية بعناية واهتمام وحرص شديد ويدعو لهم بأحسن الأدعية وأفضلها وأعزها عند خالق السموات والأرض.
كان -رحمه الله- يلاطف جلساءه بين وقت وحين ويعبر عن محبته لهم ويحتفي بأحفاده في كل وقت ويحسن إليهم بالعطايا والهيبات.
كان -رحمه الله- يدرك تمام الإدراك أن من مقاصد الإصلاح داخل الأسرة الواحدة الصبر والصلابة والحكمة حتى يفهم الجميع معنى الصبر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} سورة البقرة آيه 153.
فالصبر مطلب لكل إنسان منَّا في هذه الحياة فهو يمتاز بهذه الخصلة المهمة فمهما ادلهمَّت الخطوب وأظلمت أمامه الدروبُ فإنه يعلم جيدَّاً معنى الصبر، وإن الفرج مع الكرب وإن مع العُسر يُسرًا.
كان -رحمه الله- شمعة ساطعة في منزله وملتقى لأبنائه وبناته وأحفاده وإخوانه وأخواته وأقاربه ومحبيه كل نهاية أسبوع حتى أصبح لهم ملاذاً -بعد الله- يلجؤون إليه في السَّرَّاء والضَّرَّاء وفي كل وقت وحين.
كان -رحمه الله- علاقته بإخوانه وأخواته وخاصَّة [أبو عبدالله وأم خالد وأم سلطان] علاقة قوية مبنية على تبادل الاحترام والتقدير والمحبة والمودَّة والتعاون والتكاتف والتآلف فيما بينهم.
كان -رحمه الله- عندما نزوره في منزله العامر بحي المرسلات في أوقات المناسبات السنوية كان يتحفنا جميعاً بحديثه الشيق والجميل عن مناقب ذلك الرِّجال الأفذاذ أمثال جده محمد بن صالح الصالح وعن خواله الكرام عبدالرحمن وصالح - رحمهم الله جميعاً - وعن مزرعتهم الغناء التي تدعى [نبعان] الواقعة ببلدة عَرِقَة والتي تحتوي على أشجار عدَّة من أشجار النخيل والرمان والعنب والتين وعن مراحل الصّبا عندهم في ذلك الوقت، فكنا ننصت لحديثه جيدّاً عن الماضي بكل معانيه الثقافية والفنية ويضع الحضور بحكمته في حقيقة التاريخ وأصالته وتلاحم أفراد مجتمعه.
وقال الشاعر الحكيم:
ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه
فلا تكتسب بالمال شيئاً سوى الذكر
فقد أبلت الأيام كعباً وحاتِماً
وذكرهما غض جديد إلى الحشر
كان -رحمه الله- لين في غير ضعف وشديد في غير عنف.
وختاماً.. تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وإخوته وأخواته وأبناءه وبناته وأحفاده وزوجته ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
- عبد العزيز صَالح الصَّالح