من المؤكد عند حدوث أي وباء عالمي مثل «وباء كورونا» الذي يجتاح العالم الآن أن تصاحبه آثار سلبية سيئة عدة، أهمها الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية علاوة على الآثار النفسية والعصبية والعقلية. وهنا سنحاول التعرف على بعض الجوانب النفسية والعقلية لهذه الجائحة العالمية غير المسبوقة، وذلك في محاولة منا لتوضيح مدى العلاقة بين هذا الوباء غير المسبوق والذي طال العالم كله تقريباً وما سيصاحبه من اضطرابات نفسية وعصبية وعقلية لدى كثير من الناس، ولهذا سأقوم بطرح ومناقشة بعض الأسئلة والاستفسارات التي تشغل كثيرًا من الناس والإجابة عليها.
وهذه هي الأسئلة: هل من المتوقع حدوث آثار نفسية سيئة مع وباء كورونا الآن؟ لماذا سيحدث؟ وما هي كيفية حدوثه؟ ومن هم الفئات الأكثر عرضة لحدوث هذه الاضطرابات النفسية والعقلية؟ وكيف يمكن مواجهة وعلاج وباء الاضطرابات النفسية المتوقع أن يتزامن مع هذا الوباء الفيروسي؟
بداية يجب أن يعلم الجميع أن العالم كله الآن أصبح في مركب واحد وكل الناس تمر بالظروف نفسها التي يمر بها العالم أيًا كان السبب إلا أن النتيجة هي ما نراه الآن من انتشار لهذا الوباء في كل البلاد وأصاب ويصيب الناس بدرجات متفاوتة.. ومن الطبيعي وكما هو معروف أن الإنسان يتفاعل نفسياً مع ظروف الحياة التي يعيشها من حوله بكل أشكالها وأوضاعها وبالتالي تنتج لدى كل إنسان أحاسيس ومشاعر نفسية وعقلية كردّة فعل تفاعلية لما يدور من حوله وخصوصًا هذا الضغط النفسي والعصبي الذي يتسبب فيه هذا الوباء على مستوى الصحة العامة والصحة النفسية بما يتسبب فيه من وفيات وأزمات اقتصادية وقيود على الحركة واضطراب في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والأسرية والتي تتضرر كثيراً كما نرى كل ذلك يحدث الآن، وبالتالي سوف تؤثر كل هذه الأمور على حالة الاتزان النفسي والانفعالي لأي شخص سواء فرحًا أو حزنًا، هدوءًا أو قلقًا، طمأنينة أو خوفًا وما إلى ذلك من تفاعلات نفسية، وبالتالي تسببه في حالات القلق والخوف والاكتئاب، وذلك مصدقاً لقوله تعالي: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ}، وهذه أمور متوقعة الحدوث لأن الإنسان يتأثر نفسياً وبشدة في أوقات المحن والشدائد والأزمات والكروب والكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير وما ينتج عنها من دمار واسع للمباني والتجهيزات الأخرى وكذلك حصد لأرواح الآلاف من الناس المتضررين بها، أو مما قد يحدث من كوارث بفعل الإنسان نفسه كما في الحروب والإرهاب، وقياساً على ذلك فإن الأوبئة التي تصيب الإنسان تُعَدُّ أحد الكوارث الطبيعية وخصوصًا هذا الوباء الذي يجتاح العالم بقسوة الآن.
حيث يتوقع المحللون أن هذا الوباء قد يحصد أرواح الآلاف وربما الملايين من البشر في كل أرجاء الكرة الأرضية إذا لم تتم السيطرة عليه، وذلك لسرعة السفر وحرية التنقل بين البلاد، ومن هنا يكمن سر الخوف الزائد في الأوساط الطبية من سرعة وسهولة انتشار هذا المرض بصورة وبائية غير مسبوقة، وبالتالي فقد تم أخذ كثير من التدابير لمنع انتشاره، وذلك بمنع السفر والتنقل بين البلاد بل والقيام بعملية تعطيل لكل أشكال الحياة من دراسة وعمل وإلزام الناس بالجلوس في منازلهم، كما أن توفر وسرعة نقل الأخبار وصور المرضى والموتى ومآسي الأهالي وما تعانيه حتى بعض الدول المتقدمة عبر وسائل الإعلام المختلفة والمتطورة جداً في زمن الإنترنت والفضائيات جعل العالم كله من صغيره إلى كبيره وكل أطيافه وأجناسه في أي مكان أو زمان على دراية تامة واحتكاك متواصل لحظة بلحظة بكل ما يجري ويحدث هنا أو هناك لهذا الوباء القاتل، وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى وباء آخر من الاضطرابات النفسية والعصبية لدى الناس كافة حيث ازدادت حالات الخوف الدائم من العدوى والقلق والترقب الدائم للأحداث، وكذلك زادت حالات الاكتئاب النفسي لدى أهالي المنكوبين بل حتى لدى الإنسان العادي البعيد عن دائرة الخطر تعاطفاً مع المنكوبين وأهاليهم مع تخوف شديد من هذه الكارثة الإنسانية التي قد تصل لأي إنسان..
ومن المتوقع أن يتأثر كثير من الناس نفسيًا حيث يعيش الجميع في ظرف استثنائي لم يمر به العالم من قبل بمن فيهم الأطفال الذين لا يدركون ما يحدث إلّا أنهم يرون حالة القلق والخوف وما يشبه حالة الإقامة المنزلية إجبارياً لا اختياريًا، وبالتالي سيعاني نفسيًا كل من هو لديه استعداد للتأثر نفسياً أو من هم مرضى نفسيين فعليًا وكذلك من سيعيش ظروفاً صعبة قاهرة خلال هذا الوباء مثل أهالي المصابين وضحايا الوباء، وكذلك مقدمي الخدمة الطبية في الصفوف الأمامية داخل مراكز الرعاية الطبية المكثفة ومعاونيهم من تمريض وفنيين وباقي كوادر المستشفيات ومن هم في مجال الخدمة الطبية وكل الأجهزة التي تعاونهم في توفير متطلبات توفير الرعاية الصحية والدوائية والتجهيزات الطبية والأمنية والخدمية الذين يعملون ليل نهار تحت ضغط ساعات العمل الطويلة ومواجهة احتماليات الإصابة والإرهاق البدني والنفسي والحرمان الاجتماعي والأسري وكل هؤلاء يجعلهم أكثر عرضة للتأثر نفسيًا، وبالتالي هم في حاجة للدعم المعنوي والنفسي حتى لا تصل حالتهم النفسية لحالة الاحتراق والانهيار..
إن مواجهة وعلاج متلازمة الاضطرابات النفسية المصاحبة لأي حالة وبائية لا تحتاج فقط لمجهودات فردية ولا حتى إقليمية ولكنها تتطلب تضافراً لكل الجهود وعلى كل الأصعدة والمستويات الطبية والسياسية والأمنية والدينية والاقتصادية والاجتماعية وحتى على الصعيد العالمي والتي ستكون هي مركز القيادة أو الركيزة الأساسية لمواجهة هذا الوباء العالمي، وبالطبع يأتي على رأس هؤلاء المسؤولين منظمة الصحة العالمية وما يتبعها من هيئات ومن ضمنها الجمعية العالمية للطب النفسي وما ستقدمه من برامج التوعية والدعم النفسي للمنظمات الإقليمية والأهلية في مواجهة موجة التأثر النفسي الشديدة المتوقعة لما يحدث للناس الآن نتيجة لهذا الوباء ومن خلال التنسيق والتعاون مع وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية والمحلية والفضائيات وشبكة المعلومات وتقنية وضبط وتنظيم تناقل الأخبار الخاصة بالوباء وآثاره المميتة على البلاد المنكوبة والابتعاد عن إثارة الرعب والفزع في نفوس الناس بل يجب أن يتم ذلك بأسلوب تحذيري دون إثارة وتهويل وتخويف مع بث لروح الثقة والطمأنينة والأمل في نفوس الناس بإمكانية القضاء على هذا المرض قريباً وجدوى العلاج منه في أقرب وقت.
كما يجب على الناس وخصوصًا هؤلاء الأشخاص الذين لديهم سهولة في التأثر نفسيًا؛ عليهم الابتعاد عن متابعة تلك الأخبار المخيفة والكئيبة المتلاحقة والمرتبطة بهذا الوباء والتي تستثير لديهم حالة القلق والاكتئاب والخوف مثل الإحصاءات التي تتحدث عن معدلات انتشار المرض وأعداد الوفيات في كل بلد، وذلك لأن كل هذه الأمور سوف تزيد من حالة القلق والتوتر والخوف والاكتئاب، كما يجب على كل من يلاحظ على نفسه أنه قد بدأ في التأثر نفسيًا وزادت لديه درجة القلق والحزن والخوف وبدأ يعاني من قلة في النوم وتوهمات مرضية مثل القولون العصبي والصداع عليه أن يزور طبيباً نفسياً في أقرب وقت حتى يتجاوز تلك الأزمة.
أما على المستوى الإقليمي فإن كل دولة بهيئاتها السياسية والإعلامية والدينية والطبية والاجتماعية يجب عليها التعاون مع الهيئات الدولية والقيام بأعمال داعمة وفعالة على قدم وساق مع كل الهيئات العالمية المناظرة وتوفير برامج التشخيص واكتشاف المرض والوقاية من الإصابة سواء بالحجر الصحي أو التطعيمات الواقية من هذا المرض والالتزام بحظر التجوال للحد من انتشار الوباء مع الحث على تحمل هذه الظروف الاستثنائية حتى تزول هذه الشدة مع إبرار الجوانب الإيمانية ورفع الحالة المعنوية العامة للناس وطمأنتهم على حياتهم قولاً وعملاً. أما الدور الأخير والمهم أيضاً فيقع على عاتق الهيئات الطبية وكل الأطباء والعاملين معهم في هذا المجال المهم جدًا من صيادلية وممرضات وفنيين وجميع العاملين بلا استثناء، وهذا هو دورهم والتزامًا منهم بمبادئهم تجاه إخوانهم في الإنسانية في ظل هذه الظروف الإنسانية مع زيادة الدور الداعم من جانب الطب النفسي في المواجهة الفعالة للتأثيرات النفسية السيئة للوباء وكيفية الوقاية من هذه الاضطرابات النفسية المحتملة لدى الناس والعمل على علاجها، وكذلك يجب على الرأي العام لدى المجتمع وكذلك الأطباء غير النفسيين تقبل المساعدة النفسية من زملائهم الأطباء النفسيين بلا حرج لمواجهة حالات الخوف والقلق والاكتئاب لدى من يتعرض للضغوط النفسية وبدأ يشعر بالمعاناة نفسياً مع الإيمان الكامل بقدرة الله وإرادته في كل زمان ومكان وتحت أي ظرف حتى يزول الوباء وتنتهي هذه الغمة -إن شاء الله- بالتوكل على الله والثقة فيما يقضيه لنا والرضا به والصبر على هذا الابتلاء والتأكد من الفرج بعد هذا الضيق وزوال هذا الكرب -إن شاء الله- لقوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. وقوله تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}.
** **
- استشاري الطب النفسي