بعد أن افتقدنا الاستمتاع بهذا المكان -البيت-، صار اليوم أجمل كلمة تُردد (خلَّك في بيتك).
تخلينا عن هذا المكان، واستعضنا بـ«الكفي» والاستراحة، وكان أن ثار، فصار جبراً، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: «نعم صومعة الرجل بيته يكف بصره ولسانه».
البعض منا أسرف في مخالطة الناس، حيث لا يجد ساعة فراغ إلا واختلط بالأصحاب، وترك الأهل وحقهم، ونحن في هذه الأيام إذ نعيش قلة في المخالطة فهي وسيلة لمراجعة النفس، وتغذية الفكر والعقل، وأنت في عُزلة اجلس مع سيرة سيِّد المرسلين، ومع صحابته الأبرار وجالس العلماء والمثقفين والكتَّاب المبدعين، من خلال كتبهم، ومقالاتهم، حينها لن تكون في عُزلة، بل معهم تدور في عقولهم وأفكارهم، عزلتك لا تكون في ختم مسلسل أو مشاهدة فيلم هابط، عُزلتك لا تكون في التفكير في بطنك حتى لا تكون من المثقلين بالسمنة بعد العزلة.
يقول ابن حبان البستي: «من لم يكن له همة إلا بطنه وفرجه عد من البهائم، والهمّة النبيلة تبلغ صاحبها الرتبة العالية».
يقول ابن تيمية في شأن المُخالطة:
(فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ..)
والعزلة في تراثنا العربي والإسلامي لها حضورها، حيث إن بعض أصحاب الفكر والعلم، في القديم والحديث، كان لهم عزلتهم، ولذا تكلموا عنها يقول الإمام الخطابي -رحمه الله-: (ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبيلها، ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر).
وهناك العزلة الروحية، التي تستقيم بها حال الإنسان، لكنها لا شك من الأمور الصعبة على النفس البشرية، وما يقدر عليها إلا من أوتي عزيمة يقويها إيمان راسخ.
يقول ابن القيم في هذا الشأن:
(إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغني أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم، فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرَّفوا إلى ملوكهم وكبرائهم، وتقرَّبوا إليهم، لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرَّف أنت إلى الله، وتودَّد إليه، تنل بذلك غاية العزة والرفعة).
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له: إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس، فقال: يحيى: إن كنت من الناس فلا بد لك من الله).
هذه هي العزلة، وتلك من بركات (خلَّك في البيت) فقد نخرج بنتاج فكري وأدبي فريد وجميل.