د.عبدالله بن موسى الطاير
طوَّرت المملكة مع الوقت سياسة نفطية تقليدية، أخذت في الحسبان الظروف الدولية على مَرّ السنين. وفي وثائق المخابرات الأمريكية قامت السياسة النفطية السعودية على ضمان تدفُّق الإمدادات النفطية، وتعظيم العائد الاقتصادي طويل المدى على احتياطاتها النقدية الهائلة، وحماية تلك الاحتياطات الخارجية من استيلاء بعض الدول عليها كما حصل مع قانون (جاستا) مؤخرًا، والمحافظة على مدخراتها من أن تتأثر بكساد اقتصادي، يؤدي إلى تذبذب في أسعار صرف العملات، واستخدام عائدات النفط للمحافظة على الاستقرار السعودي الداخلي، وتسخير الإيرادات النفطية لحماية المملكة من التهديدات الخارجية أو تأثير النزاعات الإقليمية على سلامة أراضيها، والحصول على اعتراف أكبر بدورها الدولي، وبخاصة في محيطها العربي والإسلامي، دون بلوغ مستوى تكون فيه هدفًا للدول المتربصة بها. وأخيرًا تجنُّب انتقادات الدول المستهلكة بسبب عدم إنتاج المملكة بكامل طاقتها لخفض الأسعار، وتجنُّب نقد الدول الأقل نموًّا من عدم مساعدتها ماديًّا.
بعد 1973م حاولت المملكة التقرب إلى الدول المستوردة، وبخاصة أمريكا، وعدم إبرام أمر يخص النفط دون التشاور مع الحلفاء المهمين، وفي الوقت ذاته قاومت الضغوط الأمريكية الملحة في المزيد من الإنتاج؛ فقد كانت المملكة تضع في حسبانها مصلحتها الوطنية، والشركاء في أوبك وخارجها. هذا السلوك السعودي كان يستفز الإدارة الأمريكية.
لعقود كانت أمريكا أكبر مستورد للنفط في العالم، وحتى بعد تقليل اعتمادها على نفط الشرق الأوسط في أعقاب حظر النفط 1973م بقيت السعودية المتحكم في سوق الطاقة إلا أن القصة اختلفت بعد الطفرة في إنتاج النفط الصخري الذي راج الاستثمار فيه بسبب ارتفاع أسعار النفط التي لامست 150 دولارًا عام 2008م؛ وغدت أمريكا أكبر منتج للنفط في العالم بمتوسط 17.5 مليون برميل في اليوم، متجاوزة السعودية وروسيا، بل إنها، ولفترة وجيزة، منتصف 2019م بلغت المصدر الأول للنفط بنحو 9 ملايين برميل يوميًّا. وفي نشوة الإنجاز، ووسط فوضى عارمة، وتهديدات أمنية إيرانية للممرات المائية في الخليج، صرَّح الرئيس الأمريكي بأن أمريكا أصبحت الآن أكبر بلد مُنتج للنفط في العالم؛ ولذلك فهي لم تعد بحاجة إلى نفط منطقة الشرق الأوسط. مضيفًا «لا حاجة لنا حتى أن نكون هناك». ومما زاد الطين بلة تصريحاته عقب الهجوم على شركة أرامكو؛ إذ قال إن «أمريكا ليست بحاجة إلى نفط الخليج، لكنها ستساعد السعودية». هذه التصريحات عكست تحولاً أمريكيًّا جوهريًّا في العلاقات السعودية الأمريكية فيما يتعلق بالسياسات النفطية، وكان على السعودية أن تغيِّر أيضًا من التزاماتها نحو المستهلك الأول إلى علاقاتها بالمنتج الأول للنفط.
إعلان السعودية رفع إنتاجها إلى نحو 12.6 مليون برميل يوميًّا، وتقديمها تخفيضات لعملائها الاستراتيجيين، الذي تصادف مع عدم تمديد خفض الإنتاج بين أوبك والمنتجين من خارجها، كروسيا، من جانب، ومن جانب آخر مع تفشي فيروس كوفيد-19. لقن هذا الإعلان الأمريكيين والروس درسًا مهمًّا، مؤداه أن تغيير قواعد اللعبة لا يمكن أن يكون من طرف واحد. وبذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والسعودية لا مفر لها من عقد شراكة الرابحين للوصول إلى سعر عادل لبرميل النفط.
من غير المعقول أن تطالب أمريكا الدول بأن تخفض إنتاجها ولا ترغم المنتجين الأمريكيين بالتزام التخفيض، بدعوى أنها ملك للقطاع الخاص، وأن أي إلزام لها يتعارض مع قانون الاحتكار التجاري!
استقرار أسعار النفط يتقاطع مع الأمن الوطني لدول مهمة في عالم اليوم، وقرارا التحكم في الأسعار أو إغراق الأسواق ليسا قرارَين اقتصاديَّين فحسب، وإنما سياسيان أمنيان أيضًا؛ وعليه فإن التمسك بسياسات حذرة مهم للدول المنتجة، كما أن المحافظة على التكتلات، ولو كانت تقليدية، تعطي الدول المصدرة داخل أوبك أفضلية في التحرك الجماعي أو التلويح به لضمان استقرار السوق النفطي. وآن الأوان لأمريكا أن تمارس مسؤوليات المنتج الأول للنفط التي لطالما التزمت بها المملكة على مدى عقود.