إبراهيم بن سعد الماجد
يذكرني الممنوع من التجوّل، بالفعل الممنوع من الصرف، كونه صرف عن ما كان يمكن أن يكون.
فمعنى الصرف الذي عرّفه اللغويون النّحاة على أنّه ردّ الشيء عن وجهه. وأنت اليوم رُددّت عن وجهتك، وقيّدت بالمكان والزمان.
البقاء في المنزل، نعمة لا يدركها إلا من استشعرها، وعمل من أجل أن يحولها إلى فترة إيجابية في حياته، لا فترة عقابية.
ومن جماليات بقاء كامل الأسرة في المنزل، لمن عملوا على تحويلها إلى شيء إيجابي، أداء الصلاة جماعة، وإدراك تكبيرة الإحرام من الجميع، وهذه نقطة في غاية الأهمية، ذكّرني بإيجابيات الحجر والعزل، الدكتور عبدالله الطاير، عندما غرّد عن عزله بعد عودته من لندن، وكان هذا العزل في فندق بمكة المكرمة، فقال: أعظم ما يمكن أن أكون استفدته طوال 14 يوماً أنني أؤدي صلاتي وكل صلاة بمئة ألف صلاة، كان شعوراً إيجابياً، جعل من هذا العزل أو الحجر أو المنع نقطة إيجابية استشعرها فكانت مُسلّية له، لما أضافته له من أجور لم تكن في الحسبان.
ومن نعم الله على الإنسان عندما يستشعر أن علاجه يأتي من عند نفسه، وفي هذا الحجر علاج استباقي لما يمكن أن يكون، وكذلك بأمره سبحانه وتعالى، وما أجمل قول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
دَوَاؤكَ فيكَ وما تَشْعُرُ
ودواؤكَ منكَ وما تبصرُ
وتحسبُ أنكَ جرمٌ صغيرٌ
وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
حكايات المرض من الحكايات التي تستوقف الإنسان، ولا أقول يطرب لسماع تفاصيلها، ولكنها تشده بفطرته التي تهوى معرفة خفايا الأوجاع، حتى وإن ذرفت دموعه، وتألم قلبه.
يقول محمد الوراق:
وكم من مريضٍ نعاهُ الطبيبُ
إِلى نفسِه وتَوَلىَّ كئيبا
فماتَ الطبيبُ وعاشَ المريضُ
فأضحى إِلى الناسِ ينعى الطبيبا
أبيات فيها تعزية، وتسلية لكل مريض، فربما يكون طبيبك سابقاً لك وأنت تعيش صحيحاً شحيحاً أمداً من الدهر.
والمعالجة إذا تجاوزت المعقول من المنقول، فهي عبث لا يمكن أن يُقال عنه توكل، بل إنه تجاوز مرفوض، لكن وكما ثبت بالدليل أن العلاج المادي لا يتنافى مع العلاج الروحي، بل إن من الأهمية بمكان الجمع بينهما.
يقول عبدالقادر الرياحي:
ويَشْفِي شفاءٌ ثم فيه شِفَاءُ
وننزل يَشْفيني هُدىً وشِفَاءُ
فذي ستّ آيات إذا ما كتبتها
لذي مَرَض مُضْنًى فهنّ شِفَاءُ
يا رحيما بالمؤمنين إذا ما
ذهلت عن أبنائها الرحماء
يا إلاهي وأنت نِعْمَ اللّجاءُ
عَافِنَا واشفِنا فمنك الشّفاءُ
ابتهالات لا تتنافى مع تعاطي العلاج المادي الذي تداوى به أنبياء الله والصالحين من عباده، وكفى توجيهاً قول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبي سعيد -رضي الله عنه-، أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: ((اسقه عسلاً))، ثم أتاه الثانية فقال: ((اسقه عسلاً))، ثم أتاه الثالثة فقال: ((اسقه عسلاً))، ثم أتاه فقال: قد فعلت! فقال: ((صدَق الله وكذَب بطنُ أخيك، اسقه عسلاً))، فسقاه فبرَأ؛ أخرجه البخاري. بل إن العلاجات المادية كانت للأمراض النفسية وما أشبهها.
فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك؛ وكانت تقول: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((إن التلبينة تجمُّ فؤاد المريض، وتذهب ببعض الحزن))؛ أخرجه البخاري.
كل ذلك يؤكد أنه لا تعارض بين العلاج الروحي والمادي بأيّ حال من الأحوال. ممنوع من التجوّل، وليس ممنوع من التدبر والتفكر والتزود من المعارف المختلفة، التي تمنحك المزيد من الطمأنينة، والمزيد من العلم، والمزيد من الثقافة الحقة.
ممنوع من التجوّل..تجربة ثرية لمن وفق للاستفادة.