حسن اليمني
جائحة «كورونا» التي تسيطر على حركة سكان الأرض اليوم، ليست إلا دورة طبيعية في صراع مستمر بين الطبيعة والإنسان منذ بداية التاريخ، بمعنى معركة في حرب مستمرة منذ الأزل، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، الأمر المهم هنا هو الأثر أو الواقع الذي ستخلفه هذه المعركة في الحرب الطويلة بين الإنسان والطبيعة.
بدأ أو سيبدأ البحث والدراسة في آثار هذه المعركة «البيولوجية» مع الإنسان على مختلف شئونه الحياتية وتفاعله مع الطبيعة الكونية للأرض، فنحن أمام فاصلة زمن تاريخية يختلف قادمها عن سابقها، وقد لا يلمس الفرد العادي أثر التغيّر بشكل واضح وملموس لكن طبيعة تكوين العالم اليوم بما وصل إليه من تقدم وسيطرة في استخدام ثروات الأرض والهواء والفضاء حتماً ستتغير وبتغيرها تتغير قواعد ونظم التطور والمستقبل، هذا ليس تنبؤًا أو مستجدًا وإنما تكرار حدث وسيستمر كمعارك حتمية حين تصبح هي الخيار الأوحد، ظهر الطاعون الانطوني Antonine Plague عام 165م الذي أسقط في النهاية الإمبراطورية الرومانية الغربية متعددة الآلهة وأنشأ الإمبراطورية الدينية «المسيحية» في الدولة البيزنطية ثم جاء طاعون «جستنيان» Plague of Justinian. عام 541م ثم طاعون «عمواس» عام 630م، واستمر يعاود الظهور إلى أن ظهر طاعون الموت الأسود عام 800م، ثم ظهرت الأنفلونزا الإسبانية عام 1918م، وتكررت مرات عديدة تحت مسميات مختلفة مثل أنفلونزا الخنازير القريبة من ذاكرتنا اليوم، وهكذا هي معارك مستمرة في حرب طويلة بين الإنسان والطبيعة.
إن تطور العلم والتقنية وبلوغ الإنسان شأواً عظيماً في القوة المناعية والوقائية وتغلبه على العدو «البيولوجي» مرة بعد مرة لم يخلُ أبداً من آثار جانبية فرضت التغير والتحول في مسار أمم الأرض في مرآة لا تراها عين المعاصرة بالنظر المجرد ولكنها ظاهرة وواضحة في أثرها بمنظور الأجيال ودورة التاريخ، وأن بوادر التغير الذي يمكن رؤية ملامحه اليوم نتيجة جائحة «كورونا» اليوم نراه في خضّة الاقتصاد والانكماش الذي ستظهر آثاره سريعاً وتعيد ترتيب مراتب القوى العالمية وتبدل المراكز والأشياء.
هل ستنتهي معركتنا اليوم مع هذا الوباء فجأة؟
لا أبداً، فما زال العالم حتى اليوم في خط الدفاع والاختباء، تجتهد كل دولة من دول العالم باختلاف إمكاناتها وقوتها في الحد من توسعه وانتشاره ولم يظهر حتى الآن بوادر هجوم مضاد لسحقه، وإن انشغلت مراكز الأبحاث «البيولوجية» تسابق الزمن في البحث عن دواء يقضي عليه والكل يعلم أنه وحتى مع توافر العلاج فلن نصحو ذات يوم، وقد انتهت معركتنا مع هذا الوباء خلال المدى القريب، حصيلة الانحسار وتجنب الإصابة والسعي لتحجيم أضراره هي فترة زمنية ستصنع واقعاً مختلفاً، وفي اعتقادي أنه وخلال العقد الثالث الذي بدأ للتو سيشهد العالم تغيراً في تركيبة النظام العالمي، تبدو الليبرالية الغربية تتهاوى اقتصادياً واجتماعياً بفعل تراكم الديون على الخزانة الأمريكية وظهور الأصولية اليمينية في أوروبا وحتى أمريكا مع اكتساح صيني نشط في الاقتصاد والصناعة والإنتاج، بل ويمكن رؤية كيف أن الصين التي استقبلت العدو «البيولوجي» قبل غيرها صارت اليوم داعماً قوياً في مواجهته في إيطاليا وإسبانيا وربما نراها في بريطانيا وحتى أمريكا بعد فترة وجيزة خاصة أن الأخبار اليوم تشير إلى تمدد وتوسع للوباء في ولايات عديدة إلى حد اضطر فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إجازة خطة سيطرة سرية تعتمد على الحرس الوطني والجيش فما هو أثر ذلك على دورة الاقتصاد والإنتاج الذي لاشك يأخذ مساراً منحنياً إلى الأسفل مع مسار صاعد في الصين.
الأهم من هذا كله هو علاقة الإنسان والطبيعة، أثرها ونتائجها، وانعكاس ذلك كله على الوعي والثقافة الجمعية، لقد هزم الإنسان الطبيعة وسحقها وساقها لخدمته الأنانية دون أن يعي عواقب قهر الطبيعة وسلب مواردها، تغلب على الأمراض فطالت الأعمار وتكاثر المواليد وتقاربت القوى وأسلحة الدمار لتلجم كوامن الشر في الإنسان وتلزمه بخيارات أخرى للهيمنة والسيطرة عبر الفكر والعقل بدل السلاح والقتل، واكتظت الأرض بالبشر وتقاربت عبر التقنية لتصبح وِحْدَة واحدة تتأثر ببعضها بشكل سريع وخاطف، تلاشت الفواصل الأممية عقائد وثقافات وحتى تقاليد وأعراف حتى صار الاقتداء أممي كقطيع متماهٍ متجانس بلغ ذروته وقمته وهو يقف اليوم إزاء وباء عام يكتسح الأرض فإلى أين يتجه؟ سيتم القضاء على هذا الوباء لاشك في ذلك ولكن ماذا بعد؟ بلا أدنى شك سنرى نتائج الكساد والانكماش وأثره في إعادة رسم خريطة العالم من خلال تغير النظام العالمي الذي نعيشه اليوم وأثر ذلك على حياة الناس، باختصار وباء بمثابة فاصلة بين عالم سابق وعالم جديد ينشأ في الظهور.