د. إبراهيم بن محمد الشتوي
سأبدأ المقالة بالسؤال التالي: هل يوجد معيار نقدي يصلح لكل النصوص العالي منها والمتدني، النثري والشعري، القديم والحديث، الحماسي والحزين، الوصفي والسردي، الوعظي والماجن، الموجز والمفصل، الطويل والقصير؟ هل هناك معيار صالح لكل النصوص وكل الأزمنة؟
هذا ما تريد أن تقنعنا به البلاغة العربية، أو هذا ما تفعله بالضبط. تقدم ما يمكن أن يوصف بأنه ضوابط، أو نماذج لما يمكن أن يوصف بأنه بليغ من الكلام ضمن أبواب البديع، أو البيان، أو المعاني. هذه النماذج أو الصفات لا تتسم بأنها خاصة في نوع معين من الكلام، وإنما يمكن أن ترد في كل قول، وأن تكون مجالاً للنظر والتحليل. ويمكن أن أضرب على ذلك مثلاً بـ»الجناس»، وهو توافق الكلمتين بالحروف واختلافها بالمعنى، فهو يمكن أن يرد في كل كلام، ويدرس بالصورة التي ورد فيها بوصفه صورة من صور البلاغة المعروفة. أو يمكن أن أضرب مثلاً بالتشبيه، فهو أيضاً يرد في كل أنواع الكلام بوصفه طريقة من طرائق القول، وتزداد قيمته بطريقة توظيفه، وكذلك القول في الحذف، أو القصر، أو الفصل والوصل.
فهي قواعد عامة للكلام، وحتى نكون منصفين، للكلام الجميل، لا تتصل بجنس من الأجناس ولا غرض من الأغراض، وهذا يجعلها صالحة لكل النصوص. وقد يكون هذا أمراً جيداً، لكن الأمر غير الجيد هي أنها تساوي بين النصوص والأجناس، إذ تتعامل معها بالطريقة نفسها، فتفقدها قيمتها بافقادها ما يميزها عما سواها بجعلها نصاً في جماعة متشابهة المكونات.
لن أقول إن هذه القواعد أو الضوابط حينما تصبح معروفة لدى الكتاب، والشعراء، فإنهم يحرصون على أن يضمنوها كلامهم، وهذا يمنحها بعداً صناعياً يفقدها ميزة البلاغة الحقيقية والتأثير، ولكنني سأقول إن انعدام الكلام منها لا يعني - وهذه هي المشكلة - أنه فاقد للجمال، أو البلاغة (وهذه قضية انشغلت بها زمناً يوم أن كنت طالباً في الجامعة)، بدليل مثلاً أن الشعر في عصر ما قبل الإسلام لم يكن يتسم بكثافة الاستعارة، ولا التشبيه، ولا غيرها من ضروب صناعات البديع بدليل أن العباسيين حين رأوا ابن الوليد مسلماً ومن لفه لفه من مجايليه ومن تبعهم يكثرون من هذه الصناعات ظنوها ضربًا جديدًا من القول مغايرًا عمَّا كان عليه العرب في كلامهم من قبل، ومع ذلك لم يكن ذلك يحرمه من حظه في البلاغة والجمال.
وبدليل أيضًا أن هناك من يرى أن شعر الحكمة ليس من الشعر في شيء، في حين أنه أثر عن الأصمعي أنه حين سئل عن أشعر الشعراء قال: الذي يقول: ومن، ومن، ومن. يقصد أبيات الحكمة في آخر معلقة زهير، وخصها بالذكر لأنها أبرز شيء لديه، فإذا كان وجودها ليس شرطاً في البلاغة، فلا معنى للقول إنها هي البلاغة، لأنها في الحقيقة ليست البلاغة، وإنما هي ضرب من ضروبها.
يوم أن كنت أدرس أدب عبد العزيز الرفاعي، وأنا أحاول أن أستفيد من مباحث البلاغة في دراسة مقالاته، لاحظت أن علم المعاني يقوم على الشيء وضده، بمعنى أنه يتحدث عن «الحذف»، ويذكر أنه البلاغة، ويتحدث عن «الذكر»، ويذكر أنه البلاغة، ويتحدث عن «التقديم» ويذكر أنه البلاغة، وعن «التأخير» ويذكر أنه البلاغة، وعن «الإيجاز» ويذكر أنه البلاغة، وعن «الإطناب» ويذكر أنه البلاغة. والسؤال الذي تبادر إلى ذهني في ذلك الوقت أنه إذا كان «الإطناب» هو البلاغة فلماذا لا يكون «الإيجاز» هو العياية، وإذا كان «التقديم» هو البلاغة، فلماذا لا يكون التأخير أسلوباً معيارياً ليس من البلاغة، على طريقة الأسلوبيين الذين اعتبروا أن المعيار الذي يميز الأسلوب الفني عن الكلام العادي هو «الانزياح»، فمقدار ما فيه من انزياح يكون قدر وصفه بالفنية والجمال (أعلم أنهم مختلفون في مفهوم الانزياح)، بل إن ما يسميه البلاغيون بالتشبيه البليغ ليس بليغاً على وجه الحقيقة، فقد يأتي التشبيه مفصلاً ويوصف بالبليغ أيضاً.
أعلم أيضاً أن هذا التناقض متصل بما يسميه البلاغيون بـ»مراعاة مقتضى الحال»، بمعنى أن وصف الكلام بأنه بليغ إنما يرتبط بالسياق الذي يرد فيه، فإذا كان مناسباً للسياق فهو البلاغة سواء كان تقديماً أم تأخيراً، وسواء كان حذفاً أم ذكراً، وسواء كان إيجازاً أم إطناباً، وإذا لم يكن مناسباً فليس البلاغة.
وهذا يعني أن تقدير ذلك يعود إلى القارئ أو المتلقي في السياق، وهو أولاً يحرم البلاغة من أن تكون قواعد صارمة لبيان مواضع البلاغة وقواعد الجمال، لأنها تذكر كل شيء وتترك الحكم الأخير للقارئ، ولأن القارئ ثانياً هو الذي يحدد كون الكلام بليغاً بما يراه، وهذا يجعل الحكم نسبياً، يختلف باختلاف المتلقي، واختلاف قدرته على البيان والإقناع في صحة مذهبه، ولأنه قد يرى البلاغة في غير هذه القواعد، وهنا يكمن مأزق البلاغة.