د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في محن المورسكيين المتواصلة بعد سقوط غرناطة، استخدمت أدوات دعائية كثيرة أصبحت من المسلمات ومن ثم رسمت صورة نمطية للمورسكي الأندلسي، الذي ربما يكون أكثر ارتباطاً بالوطن، وأكثر أصالة في إسابنيته من كثير من النصارى القدامى، كما يسمونهم.
الغريب أن هذه المسلمات متناقضة بشكل جلي، ومع هذا فقد آتت أكلها واخترقت عقول العامة، واستوطنت بها، ومع تناقضها إلاَّ أنها قد خدمت ما أرداه المتعصبون من الساسة ورجال الدين، وكلنا يعلم أن أغلب العامة يترسخ لديهم أن ما تقوله الخاصة، لا سيما من رجال الدين هو عين الصواب، والحق الذي لا مراء فيه، مع كونه متناقضاً في ظاهره وباطنه.
من ذلك التناقض، الذي أصبح من المسلمات، الاعتقاد الجازم أن المورسكيين يتزوجون في سن مبكر، ويتكاثرون بسرعة كالأرانب الملكية. وحقيقة الأمر أن البون بين المورسكيين والنصارى القدامى في عمر الزواج متقارب في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، فعددهم لم يزد عن سبعين ألفاً من إجمالي العدد الإجمالي لإسبانيا البالغ ستة ملايين ونصف مليون نسمة تقريباً، لكن وجودهم في أماكن محددة جعلتهم يظهرون وكأن أعداهم كثيرة. وهذا ما أراده الساسة ورجال الدين عندما أجبروهم على العيش في مجموعات، ومع ذلك فقد حذر الخاصة العامة بشكل دوري في أشبيليا وطليطة أن أعداد المورسكيين على وشك أن يفوق عدد النصارى القدامى، وصدقوهم، والحقيقة أن التعصب الأعمى يستطيع أن يطمس الإيجابيات أو أن يظهرها سلبيات أمام الأعين وفي الأفئدة.
وتبرير دعايتهم المضللة التي تأصلت وأصبحت من المسلمات في أذهان العامة، تلك المقولة الزائفة بأن المورسكي شهواني، يتزوج أربع زوجات، كما يسمح به دينهم، وقد وصفهم أحد الرهبان بأنهم شهوانيون شبقون كالتيوس والماعز، وينساقون وراء رغباتهم وأهواء أنفسهم في ارتكاب الآثام بلا حدود، وأنهم يستسلمون أمام اللحوم الآدمية بشكل بهيمي، وكأن سعادتهم تنحصر في الأكل والشراب والشهوة، وقال بعضهم أقولاً من ير المستحسن بنا إيرادها، والحقيقة أنه لا فرق في الطبيعة البشرية لدى النصارى القدامى والمورسكيين سواء في الشهوات أو غيرها، ومع أن الكنيسة ترى الزواج شراً لا بد منه لاستمرار الجنس البشري وليس للذة الشهوة، والاقتصار على زوجة واحدة أو أن يعيش المرء عازباً، إلاَّ أن الواقع غير ذلك، فالممارسات خارج إطار الزوجية كثيرة جداً حتى من قبل الرهبان الذين نذروا أنفسهم للعبادة، ولم يتزوجوا.
ومن المتناقضات العجيبة أن المتعصبين من الساسة ورجال الدين، والملك فيليب الثالث نفسه، سوقوا للعامة أن المورسكيين لا يكلَّون ولا يملون من العمل، وأنهم أغنى مما يظهر عليهم، لأنهم بخلاء يجمعون المال ولا ينفقونه، فهم كالإسفنجة التي تمتص كل ثروة إسبانيا وهم يتحينون الفرصة لاستخدام المال في النيل من إسبانيا، ويلومونهم على ذلك، وفي الوقت ذاته، يتهمونهم بأنهم كسالى عالة على غيرهم، وعلى إسبانيا، ويجمعون المال من وظائف سهلة كباعة متجولين، أو يعملون في مجال البستنة وزراعة الحقول، والبيع في الحوانيت الصغيرة، ومع ذلك فقد قيل للعامة هذا التناقض ورأوه خطراً عليهم.
ومن المتناقضات أيضاً اتهامهم المورسكيين أنهم يؤمنون بالرب، لكنهم لا يتبعون ما يأمر به من سلوك حسن، ولا صدق في القول أو العمل، ويمتنعون عن أكل لحم الخنزير، وشرب النبيذ، ومع ذلك فهم يكذبون، ويرتبكون الآثام والمعاصي، وفي الوقت ذاته نرى أن الكاثوليكيين من النصارى القدامى، يؤمنون بالرب، سواء الخاصة أو العامة، ومع ذلك فإن الكاثوليكيين من النصارى القدامى يرتكبون الآثام والمعاصي كما هو حال بعض المورسكيين، والغريب أن بعض من يقول ذلك، ومن يؤمن به من الخاصة والعامة يرونه مثلبة وخزيًا على المورسكيين وفي الوقت نفسه يتغاضون عما يرتبكون من أخطاء جسيمة، وهناك كُتَّاب ألَّفوا كتباً تحمل الحقد والكراهية والعنصرية عن المورسكيين انتقامًا من المورسكيين لأسباب شخصية، فمثلاً السيد ثيروفانس الذي حارب في معركة ليباتو فقد فيها إحدى يديه، وقضى حمسة أعوام أسيراً في الجزائر مع العبيد في حظيرة لا تصلح حتى للحيوانات، قد كتب كتابه منطلقاً من الحقد الدفين لما أصابة، وليس لأنه أراد أن يكتب عن الواقع المورسكي، أو حتى نظرته الأصلية لهم قبل أن يحدث له ما حدث، لهذا جاءت المتناقضات جلية في كتابه، لأنه أراد وصمهم بالرذائل والخطر على إسبانيا سواء فعلوا الإيجابيات أو السلبيات، ومثله فعل - بكل أسف - السيد ميغيل دي في نص «حوار الكلاب»، وغيرهم كثير، لكن ذلك لا يمنع من ظهور منصفين كتبوا بإنصاف في القرون اللاحقة.