د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يقاس الإنسانُ وفق عواملِ «تقويمٍ» متعددة، وربما جاز تبدلُها وفق متغيرات الأداء استهدافًا لتطويره، والثباتُ النمطيُّ سكونٌ يفضي إلى التراجع، والقفزُ البهلوانيُّ خللٌ يوصل إلى السقوط، وللعمر دلالاتُه، وللعمل متطلباتُه، وللزمان والمكان حساباتُهما، ولكلٍ منطقُه ومنطلقُه.
** لعل أهمَّ سمةٍ لذي الرأي؛ كاتبًا كان أم عالمًا أم رمزًا ثقافيًا ومجتمعيًا أم غيرَهم «الاتزانُ والتوازن»، وقد يُستثنى الشاعرُ إذ يكتب نصوصَه والقاصُّ إذ يرسم شخوصَه، ولا يُعذران إذا تصديا للقضايا العامة، ولا يُقبل منهما كسواهما أن تكون ساحاتُ الرأي متنفسًا لسوءات الذات واضطراب الصفات.
** كنا نرى أولاءِ وأمثالَهم عبر منابرهم فبقي لنا من معظمِهم أجملُ ما فيهم إذ دارَوا أخطاءَهم وتدارَوا من خطيئاتهم، وتزامن في حضورهم أدبُ النفس والدرس فسلِموا من الاغتيابِ والارتياب والاحتراب، وهي سماتٌ ملازمةٌ لأكثر مستخدمي الوسائط الرقمية بعدما ازداد الهذْر وكثر الهدْر وساد إنزالُ المرء وَفق لِجاجه لا حِجاجه.
** لو أن كبار علمائنا وأدبائنا من التراثيين والمعاصرين أورثونا «تغريداتهم وسناباتهم» وما جرى مجراهما؛ فهل كنا سنحترمُهم كما نحترم مؤلفاتهم أو نأخذ عنهم مثلما نتلقى مروياتهم؟ وكيف ستكون أحكامُنا عليهم؟ وهل سيبقى الجاحظ في بيانه وابن حزم في مُحلَّاه وابن تيمية في منهاجه والرافعي في وحيهِ والعقاد في عبقرياته وطه حسين في أيامه وغيرُهم في غيرها؟ الظنُّ أنهم سيحاسَبون بأوراقٍ كشفوها بأنفسهم ولم يكتشفها غيرهم، تمامًا كمن ينقل أحاديث المجالس المغلقة مدللًا ومعللًا، ويا لتَعسِ من يجعلُ للبائسين عليه سبيلا.
** الشخصياتُ القلقةُ تسكن المؤلفات والمرويات من غير أن يبينَ قلقُها، ولا عبرة بتناقلٍ شفاهيٍّ «عن أبيه عن جده»؛ فالعنعنةُ تتيهُ داخل مساربها ولا قيمة لمشاربها، أما عالَم «الرقميات» فمليءٌ بما يعيبُ فلا يغيب.
** من ارتضوا «العاديَّة» الثقافية لا يرتضونها في الطب والاقتصاد والتقنية والعلوم البحتة والتطبيقية؛ فهل هانت الثقافة كي يسومَها مفلسٌ ومُبلسٌ فيدنو الأعلون ويعلو الأدنون ويتماثل الغارب والسنام؟!
** جاءت أزمة الوباء الكونيِّ لتقزِّم أصواتًا هادرةً بما يمسُّ قضايا اللغة والفلسفة والشرع والمجتمع دونما سندٍ من مرجعيةٍ أو وعيٍ أو بحثٍ عن الحقيقة؛ فلا صوتَ يقارب صوتَ الرقم والفهم والإحكام والأَحكام، ولعلها بداية مرحلة تنحسر فيها الأضواءُ عن هُواة التصدر وحُواة التمظهر.
** كذا تبدو قيمةُ الاتزان والتوازن إذ كانا سماءَ الناس وسيمياءَهم ثم تواريا أو أوشكا بعدما صارت «الفُرجةُ» دون مقابلٍ إلا المروءةَ والرويَّةَ اللتين يدفعُهما من يضعُون أنفسهم على سابلة الطُّرق كي يُبصرهم الغادُون والرائحون، ويزداد عدد المتفرجين بمقدار ما يتنازلون وينزلون.
** ليكونوا نجومًا فهذا حقهم، ولكنهم لن يُقاسوا بها بعدما يمتد الظلُّ فوقهم وتواريهم أغطية النسيان، فليخترْ كلٌ ما يتدثر به يوم لا دثار إلا «ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
** الانتشار اندثار.