عبدالمحسن بن علي المطلق
ليست الدنيا هي تلك التي تمضي بانسياب (غدها كأمسها)، وإلا فقد ذهب جانب ممتع.. لا نعي مدى إعماله بنا ولذلك تجد من علية الهمم وأهل القمم إن لم يجد منافسًا نافس نفسه وهم قلّة أو لعلهم فرادى.. تدقق بكل عصر فإذا هم نوادر، وإن لم تتمحص كثيرًا فلن تدلك فطنتك على تلك النوعية لكننا نتكلم بالمجمل الذي تجده بين الناس على نحو معنى:
وإذا لم تجد من الناس كُفواً
ذات خِدر أرادت الموتَ بعلا(1).
وهذه ضرب لا أقول من التوهيم بل المبالغة التي استملحها العرب، وإن لم تبلع كثيرًا، إلا بتسويق أن كل يبحث عن منافس.. عساه يولّد داخله الإصرار فيشعل فيه فتيل الحماس وإلا تصوّر أن أحدهم يعدو بالميدان لوحده، يا تُرى! كيف يعزم على همته أن تخرج مكنوز جُهدها؟ وهذه لا توصف بالجزئية البتة بل إنها «سنّة» كونيها جعلها الله بالدنيا لتقوم وتعمر وتعلو من قبل.. بهمم أهلها وإلا من سيبلغ منها -الدنيا- القمّة قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ..} (2)
فكل ينافس ومن قبل يدافع عمَّا حاز من الدنيا بل إلى درجة أنهم كل يحمى حمى صاحبها ليضمن الحفاظ على حماه.. و.. هذه -المدافعة- هي ما تجعل للحياة متعةً.. فأنت إن رأيت صاحبك سبقك إلى حيازة الدنيا، هنا يشتعل داخلك بما يأطرك لتنهض همتك وتقاسمه الميدان عساك تفوز بالفرص الباقية ولا يستأثر بها وحده، ولعل من هنا نجد نتاج ذاك بالغابات، فالغزال لولا السباع فلن تعيش، بل لبقيت مترهلة.. تنتظر الموت يطرق قبل حلوله ولكن خوفها من السباع سبب ما جعلها تستعد في كل لحظة لتنجو بنفسها إذا ما خاتلها، فكيف إن واجهها. كل ما تقدم عساه يعلل عما يجيش داخلي بعد أن غاب عن أُفق دنياي/
ودِّعا أيها الحفيّان ذاك الش
شخص إنّ الوداع أيسر زَاد
واغْسلاه بالدّمع إن كان طُهرًا
وادفناه بين الحَشَى والفؤاد(3)
كيف لا؟، وقد مُتعت بتواجده، وكم كنت أذرب في مناوشته بل لعلي (أصارحكم) ما عرفت قدره إلا بُعيد أفوله وغياب لسعة شمسه من محياي، ذهب وترك لي لا أقول الحسرات ولكن انطفأ وهج دنيا كانت يوم كان غير ذهب وقد كنت أرجو أن يعمّر طويلاً عساي إن لم أشاطره أنس ما أرجوه من خليط وما أُمني به من عشير لأقاسمه الجهد.. فكل ما أثبط وأراه استبقني أنفر لهمتي موبخًا وإليها (وعيوني ترقبه) محفزًا.. تراجمنا بعير القول حتى نصير كأننا فرسا رهان(4).
ذهب بين ليلة وضحها، إذ أوقعه مرض سريع فلم آخذ حتى فرصة وافية لتوديعه، كنت وإياه يوم كان العمر غر نعدو يدي بيده وكل يملي حلمه لصاحبه وبما تناوشنا على أحدها لكن سريعًا ما نطوى صفحة تلكم أو نطوي صفحة الإعراض عنها، فالصحبة توجب مواجب إن لم يكن عرفًا لا نحتاج القول باشتراطه، كانت لنا أيام ربما حواها بعض سمر ولطائف ومن ثم بلغنا الشباب سويًا والمنى تكبر محاذبة سننا وإذا الرغائب شبه تتغير لكنها على ذات الطول من ميدان السبق مضينا بُعيد أولى خطا المستقبل وكل يشق طريقه، لا أكذبكم ربما كان أكثر مني جلدًا ولكن هذا لم يجعلني أُسلّم فضلاً عن استسلم بل أمخرت في ما اخترته وبلغت - والحمد لله - ما أحسبه فوق ما أرومه بنفسي، وهنا سقط صاحبي في الميدان.. فسقطت إثره تلك الهمة التيلدي ولم أعد وأن عدت للعدو.. لكن ليس على تلك الوتيرة التي كانت يوم كان خليصي اليوم أذكره.. ومن قال إني نسيته وكل شيء فيني يبكيه يناجيه، بل زهاء عمري لا يلبث إلا ويسائل:
كيف أصبحتَ في محلك بعدي
يا جديراً منّي بحسن افتقاد (5)
أجل، فما يكاد ينسى إلا وتنبعث ذكرى كأنها تنشد أو تنشج لذاك العهد الذي تنادمناه.. يدي في يده، فعلاً اعترف أن الحياة توقفت إن لم يكن عند محطته فبُعيدها بقليل، إذ لا أجد فيني ذاك الدافع الشافع إن تنفست الصعداء في تصعّد لبقايا رغباتي أو أحلامي (اختاروا) أنى شئت من التعبيرين تولى ذاك الجميل في حياتي ومالت شمس جذوتي أن تنطفئ! رحل بلا سابق ترتيب فقلب عليَّ ذاك التسلسل العذب من عمري، وكيف أعيد الترتيب السابق وأنا أنظر إلى مكانه فلا أراه، من يباريني من يرفدني من أرقبه فيمدني بالطاقة.. إن تقاعست؟ حقيقة لم أتوقع أنه يمثل لي كل هذا (الحيّز) إلا بعد رحيله وتراتيله في أعماقي تناديني.. إن تغاضيت عن.. ب/ أين الوفاء؟ أين منك الصحبة والعمر العتيق...!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) أبو الطيب المتنبي
2) الآية 40 من سورة الحج
(3- 4) أبيات من (دالية) أبو العلاء المعري
5) بيت للنابغة الجعدي و(بالمناسبة)
تسوق العرب جملة:
هما كفرسي رهان، أي يضرب للمتنافسين على غاية واحدة يستويان في الكفاءة والمقدرة كما وقال بها أبوجهل/ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه.. ألخ- وانظر تفسير ابن كثير- سورة الإسراء الآية 48.