د. خالد عبدالله الخميس
سجلت إحصاءات منظمة الصحة العالمية WHO لمرض كورونا حتى (28 مارس 2020) عن إصابة 81 ألف إصابة في الصين مقابل 80 ألف إصابة في إيطاليا. وبالمقارنة، فرغم زيادة أعداد الإصابات في الصين بعض الشيء عنها في إيطاليا، إلا أن اللافت للنظر أن أعداد الموتى في إيطاليا (بسبب كورونا) فاق عن أعدادهم في الصين بكثير جداً، حيث سجلت الإحصاءات في إيطاليا وفاة 8200 شخص، بينما سُجل في الصين وفاة 3200 فقط.
ومؤكد أن السبب في ذلك لا يرجع لعامل واحد وإنما لعوامل عدة، منها على سبيل المثال؛ مستوى الرعاية الصحية وعمر المرضى والاختلاف الجيني وغيرها، إلا أن هنالك عامل آخر له طابع نفسي يتمثل في مستوى عتبة الألم وعتبة الانهيار النفسي المصاحب للمرض والذي سنؤكد عليه في هذه المقالة.
ولفهم الموضوع بشيء من التفصيل يجب الإشارة لحقيقتين:
الحقيقة الأولى هي بيان العلاقة الثلاثية بين الجانب النفسي والجهاز العصبي والجهاز المناعي، فحيثما كانت هنالك رسائل معرفية (عامل نفسي) عميقة التأثير، تقول، مثلاً: «إن هنالك حدثًا أو مؤثرًا يهدد (أو يقوي) صحتك»، فإن هذه الرسائل تتحور إلى قوالب من السيالات العصبية (جهاز عصبي)، وتمر تلك السيالات في مسارات معينة، يعتمد بناء المسار على محتوى الفكرة، ويمتد إرسال تلك الرسائل العصبية إلى إحداث تغيرات في المستوى المناعي (جهاز مناعي). فمثلاً: الرسائل المطمئنة تقود لرفع جاهزية الجهاز المناعي، والرسائل الانهزامية تقود لانهيار جهاز المناعة. وتفصيل العلاقة الثلاثية بين النفس والجهاز العصبي والجهاز المناعي يهتم بها علم مستقل سمي بعلم المناعة العصبي النفسي.
Psychoneuroimmunology.
ومعلوم أن خطورة كورونا لا تختلف كثيراً عن خطورة الإنفلونزا الموسمية إلا في خصائص تم الإعلام عنها، لكن زخم الرسائل التخويفية والانهزامية المرسلة في كل لحظة للمصاب بكورونا والتي مفادها: «بأنك في خطر شديد وأن الموت قد دنى منك» هو ما يجعل من كورونا شبحاً مختلفاً يهدد بهزيمة الجهاز المناعي وتدهوره أمام الغازي كورونا.
الحقيقة الثانية، استهلها ببحث تجريبي قام به مجموعة من زملائنا الباحثين في قسم علم النفس بجامعة لندن عام 1992م، وهذا البحث يهدف لدراسة تأثير الجانب النفسي على مستوى الشعور بالألم، فحيثما كان الفرد منهاراً نفسياً كان الشعور بالألم أشد، فالألم قبل أن يكون هو مجرد شعور فيزيولوجي، هو أيضاً شعور نفسي، فالطفل عندما يسقط على الأرض وتوجه له إيحاء بشدة ألم السقطة فإن إحساسه بالألم يزداد، بعكس لو أوحيت إليه بالطمأنة.
الأمر الثاني الذي خلص إليه البحث هو الإشارة لوجود اختلاف بين الأفراد في تقدير ما هو مؤلم وما هو غير مؤلم (ما هو فوق عتبة الألم وما هو تحت عتبة الألم)، كما أشار إلى أن الفوارق في تقدير عتبة الألم بين الأفراد يعكس فوارقهم في الخصائص النفسية.
والأمر الثالث الذي أشار إليه البحث وهو الأهم، هو التأكيد على وجود خلاف بين الشعوب في تقدير عتبة الألم. فالبريطانيون عادة ما ترتفع عندهم عتبة الألم بعكس الإيطاليين الذين يصرخون عند الحد الأدنى للألم. فالشعب الإيطالي من أكثر الشعوب الأوربية جزعاً screaming عند المصائب. وما يقال عن عتبة الألم يقال أيضاً عن عتبة الانهيار النفسي المفضي للموت، فما دام أن مقدار تحمّل الألم يختلف باختلاف ثقافة الشعوب، فإن عتبة الانهيار النفسي عند الإصابة بمرض خطير هي أيضاً تختلف باختلاف الشعوب.
وبدمج الحقيقة الأولى مع الحقيقة الثانية نصل إلى خلاصة: أن الفكرة المهددة المتأصلة تدهور الجهاز المناعي، وأن الشعوب تختلف فيما بينها في الاستجابة للحد الأدنى من الآلام.
ولعلي في هذا السياق أن أشير إلى تجربة تؤكد إلى أن عامل الانهيار النفسي لوحده قادر على أن يحدث الموت دون أن يصاب المرء بمرض، وهذه التجربة أجريت لمجرم محكوم عليه بالإعدام وسميت بالقتل الرحيم أو القتل بالإيحاء Execution by Inspiration، حيث أُخبر المجرم بأنه سيعدم من خلال سحب دمه، حيث أُحضر المجرم إلى غرفة الإعدام وهو معصوب العينين ووضع على طاولة يمر بأطرافها أنابيب دافئة من الماء، تم خدش جلده بشكل بسيط، وقربت تلك الأنابيب الدافئة من جلده لإيهامه أن الدم بدأ في النزف، وفي نهاية الأنابيب يوجد وعاء يصب فيه الماء على شكل قطرات بحيث يسمع صوت تقطيرها، بعد فترة ضعفت دقات قلبه، وشيئاً فشيئاً تناقصت دقات القلب حتى توقفت ومات بعدها دون أن يفتقد قطرة من دمه. ففعلياً، إن الفكرة المهيمنة في عقله التي تقول له إنك حتماً ستموت هي من قتلته، وهي من أحدثت تلك التغيرات الفيزيولوجية من تناقص دقات القلب والتنفس والتي انتهت بموت محتم.
هذه الواقعة تؤكد مدى العلاقة الوطيدة بين الانهيار النفسي من جانب والانهيار الجسدي من جانب آخر، وكيف أن الانهيار النفسي قادر لوحده إلى رسائل نافذة لانهيار بنى الجسم كله وإحداث تغيرات فيزيولوجية متلائمة مع محتوى الفكرة الانهزامية.
وفي زمن الكورونا تمّ تضخيم فكرة الانهزام من العدو كورونا بشكل مخيف ومرعب عبر القنوات الإعلامية والمؤسسات الحكومية والمنظمات الدولية، حتى ترسخ في أذهان البعض أن الإصابة بكورونا يعني الموت المحتم.
وإن كانت كل مجتمعات العالم استجابت لتلك التخويفات فإن استجابة المجتمع الإيطالي كانت الأكثر شدة. وإن كان الوحش كورونا المضخم خطورته في الأذهان يلقي بجبروته محطماً مفاصل صحة الجسم، فإن مقدار هذا التضخيم يتضاعف لدى أفراد الشعب الإيطالي.
بعبارة واحدة، إن تضخيم خطورة المرض عالمياً أولاً، وامتياز الإيطاليين بكونهم جزعيين ثانيًا، هما ما جعلا من أرقام موتاهم أرقاماً مضاعفة. فما أن يصاب أحدهم بالمرض إلا وجسمه على أتم استعداد للتسليم والرضوخ لما يمليه عليه مسار أفكاره المؤكدة على أن «الوحش كورونا سيقتلني».
وللأمانة فما أشرت إليه في هذه المقالة عن سبب حصد كورونا لأرواح الإيطاليين هي فرضية مبنية على دراسات، وليست دراسة مبنية على فرضيات. ومؤكد أن هنالك باحثين نفسيين يرصدون ظاهرة موت الطليان في زمن الكورونا، ولعلنا نسمع عن دراسة تؤكد أو تنفي تلك الفرضيات.