د.فوزية أبو خالد
ويبقى الحديث ناقصًا في الجزء الأول الأسبوع الماضي من هذا المقال ما دمتُ لم أتطرق فيه إلى الكيفية التي غيّرت فيها جائحة الفيروس التاجي الكونية علاقتي بالأسئلة الوجودية، وبالأطفال، وبالكتابة، وبالقضايا الكبرى، وبالمعتقلين والمعتقلات، وبالسجون كفكرة وكواقع، وبالشؤون والشجون السياسية والمعيشية الصغيرة. لذا فلم يعد لي خيار إلا أن أتبع المقال السابق بهذا المقال لأتطرق إلى جزئية مهمة من علاقتنا غدًا بتحدي اليوم، وهي الجزئية الخاصة بالتغيُّر الجذري المتوقع ما بعد هذه الجائحة الذي تلوح التحليلات لمقدماته أنه سيطول المجتمع الدولي والعلاقات الدولية والمجتمعات الإقليمية والمحلية، بما فيها الوسائل والاستراتيجيات، وبما فيها المصطلحات والمفاهيم العلمية والسيسيولوجية والتوجهات الفكرية والعلاقات الرأسية والأفقية في المجتمع الواحد بين مختلف قواه الاجتماعية، وبين مجتمعات العالم في علاقة بعضها ببعض.
وفي سؤال التغيُّرات المحتملة بعد انحسار هذه الجائحة -بإذن الله- تتراوح التحليلات بين تغيرات تفصيلية، تبدأ من طبيعة العلاقات في البنية الأسرية للمجتمعات الحديثة، خاصة المجتمعات الرأسمالية، إلى بنية العلاقات السلطوية في بنية النظام الدولي. وقد أشار لبعضها عدد من الزملاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منها آراء ستيفن والت من جامعة هارفارد، الذي حذر من أن يقود تفرد الحكومات الغربية بإدارة المشهد العام إبان الأزمة على ما يلاقي من انتقادات لبطئه وعجزه عن اتخاذ إجراءات استباقية قوية، تحد من تفشي الفيروس داخله، قد يخل بميزان العلاقة بين الدولة والمجتمع لغير صالح القوى المدنية بالمجتمع، كما قد تكون له نتائج بالمقابل تخل بميزان قوى النظام الدولي المعهود نتيجة أيضًا لعدم الفاعلية الكافية في تحرك قوى عظمى كأمريكا وأوروبا في احتواء تحول الداء من وباء إلى جائحة عالمية. يُضاف لتلك التوقعات التي تتحدث عن الأثر السلبي لما بعد الكارثة على الديمقراطية الغربية الحديث عن مقارنات متوقعة بين أنظمة رعوية، استطاعت أن تحتوي مواطنيها بتقديم خدمات صحية ووقائية ورعائية عالية في قالب جمعي، وبين أنظمة رأسمالية عتيدة، عمدت إلى ترك مواطنيها في عراء الفردية الضارية دون غطاء صحي أو اقتصادي كافٍ. وتُبنى هذه التوقعات ليس فقط على الموقف الأمريكي والأوروبي العشوائي والضعيف في إدارة هذه الأزمة الصحية العالمية، بل أيضًا على دور النظام الدولي الحالي بأقطابه الأربعة من أمريكا وروسيا والصين ودول أوروبية في إنتاج هذه الأزمة نظرًا لما يعانيه هذا النظام من الفساد البيئي والتورط العسكري والانشغال بصناعة السلاح والصناعات الاستهلاكية على حساب الحاجات الأساسية لبقاء المجتمعات، منها ضمان الصحة وسلامة البيئة والسلام الدولي.
وهناك في سياق الحديث عن الأثر الاجتماعي والسياسي المتوقع للجائحة وما بعد الجائحة مقال جدير بالذكر لهيلين لويس، يتحدث عن تأثيرها السلبي على النسوية، وعلى النساء من منظور وقوع معظم مسؤوليات الحظر المنزلي على عاتق النساء من رعاية الأطفال إلى متابعتهم الدراسية الإلكترونية إلى خدمة مرضى الأسرة وكبارها في السن، إلى جانب أداء مهام العمل عن بُعد مقابل القليل من تعاون رجال الأسرة وانشغالهم بمهام العمل عن بُعد فقط مع الانصراف للتسلية بوسائط التواصل الاجتماعي، والميل إلى المناوشات بما قد يؤدي -لا قدر الله- لو طال أمد الاحتباس إلى العنف البيتي.
هذا عدا توقعات الكساد المالي والاقتصادي الكاسحة التي قد تكون لها نتائج كارثية على الطبقة المتوسطة.
غير أنه يستحسن أن أختم بتوقعات أقل قتامة، وقد جاء بعضها في سياق حديث عالم الاجتماع الفرنسي إدجار موران، ترجمه الحسن مصباح، الذي رأى أن ما بعد كارثة فيروس كورونا قد يعيد الاعتبار لمبدأَين رئيسَين من مبادئ العلاقة بين البشر، الأول يتمثل في إعادة الاعتبار لمبدأ التعاون الدولي بدل الصراع في علاقة الدول ببعضها. وهذا -في رأيه- مبدأ أخطر من أن يترك أمره للساسة والجنرالات؛ لذا لا بد من تفاهم وتعاون على مستوى الشعوب. وأشار في ذلك إلى التعاون الطبي والبحثي الذي تولد من معطف هذه الجائحة الكونية الخطيرة، وتوقع تعزيزه. ومثاله في ذلك قصيدة بحور عديدة، وجغرافيات مختلفة، ولكن «أرض وسماء واحدة» التي هتف بها الفريق الطبي الصيني وهو في طريقه لمساعدة إيطاليا في مقاومة الوباء. المبدأ الثاني الذي وُلد أيضًا من حلقة الضائقة هو مبدأ الترابط الأسري أو ما سماه التضمنات الاجتماعية داخل خلية الأسرة الواحدة بعد دربة الحظر البيتي الإلزامية وداخل الحي والجيرة. وأعطى مثالاً على ذلك بأغنيات الشرفات في الأحياء الإيطالية المنكوبة.
والخلاصة أنه لا بد لي من عودة في مقالات قادمة عن يومياتنا في الفكر والمشاعر والإحساس والتساؤلات خلال هذه الغيمة الكونية الخانقة التي نبتهل لله ألا تطول، وأن نخرج منها بأقل الخسائر على مستوى إنساني وبشري في الأرواح، وبأكبر قدر من المكاسب في القيم والمبادئ ومكارم الأخلاق، وفي العدل وتثمين الحياة..
ولو لم أكف قلمي، وأضع نقطة في آخر السطر لهذا الجزء من المقال، لوجدت أنني سأكتب إلى آخر لبنة في الجدار العازل الذي نقيم خلفه في بيوتنا اليوم للذود عن ذواتنا وأهلنا والعالم نحو عمران جديد.