الهادي التليلي
الجرعة الإيجابية التي أفرزتها مخرجات قمة العشرين والتي رعتها المملكة وجعلت التفكير في ما بعد كورونا أمرًا قريب المنال وعلى بعد أيام، حيث نصت على التضامن العالمي، كالتشديد على تقوية النظم الصحية في العالم والتعهد لتنسيق قوي بين الدول النامية من المجموعة والالتزام الكامل بحماية الأرواح والتصدي لآثار الجائجة الاقتصادية والاجتماعية والصحية مع إصلاحات مالية عالمية بما يجعل الاقتصاديات الكونية أكثر أمانًا أمام الهزات والأزمات، إضافة إلى عناية أكثر بمجال الصحة وتطوير البحث فيه بما يليق بكائن يرغب في البقاء والنماء.
هذه الجرعة الإيجابية أعادتنا إلى لحظة ما بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، حيث أثار المفكر الأمريكي والياباني الأصل فرنسيس فوكوياما بمؤلفه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» جدلاً حادًا في الأوساط الفكرية العالمية لاعتباره أن ما بعد سقوط الاشتراكية ستكون هيمنة متوحشة لليبرالية، سقوط جدار برلين تداعياته الإيبستمولوجية كانت أعمق من حدوثه في الوقع، فنهاية عصر مزدوج العقل التسييري العالمي وبداية عصر آخر تكون فيه الليبرالية سيدة الموقف لم يكن سهل الهضم..
طرح فوكوياما الذي زلزل عديد السواكن لم ينتظر طويلاً حتى جاءه الرد من أستاذه صمويل هنتنغتون بكتابه «صراع الحضارات»، حيث اعتبر أن ما بعد الحرب الباردة لن تكون المحركات للصراع بين قومية وغيرها وإنما هي تخضع لتحكم الثقافات وتنوعها وبالتالي سقوط جدار برلين أنهى كيان الاتحاد السوفياتي السابق ولم ينه الشيوعية.
الجدل الحاد الذي قام بين الرجلين وعكسه التأليف بقي المشهد الفكري يقتات من تفاصيله سنوات طويلة بعد نهاية الحرب الباردة، وكانت كل لحظة تاريخية منبهًا لاستذكار مدى صحة كل طرف منهما، وفي حقيقة الأمر ما سمح لانتشار أفكار الرجلين هو عمق الخلفية لكليهما والتي تجمع بين علم الاجتماع والفلسفة وما يقرب بين هذين المجالين والأنتروبولوجيا بشقيه الثقافوي والذي يمثله كلود ليفي شترواس وهيرسكوفيتش ومن لف لفهما والذي يعرف الحضارة بما هي تنوع ثقافي لا عنصري، وشق الأنتروبولوجيا الكلاسيكية لليفي بريل وغيره والتي ترى الثقافي محصورًا في ما هو تقدم وحضاري، ومن ثمة فالدول المتقدمة عليها أن تأخذ على عاتقها مهمة الاستحواذ على الدول المتأخرة وتطويرها وهو شكل من أشكال التبرير للاستعمار، لذلك ارتبط الطرح الأنتروبولوجي الكلاسيكي تاريخيًا بالاستعمار البريطاني خاصة. وإذا كان الواقع وحركته قد انتصر للإتروبولوجيا الثقافوية، فإن كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير جاء صادمًا ومبشرًا بما بعد العالم الثنائي وما ينتظره جراء أحادية القرن من ويلات على الطرف المهيمن من ناحية وعلى العالم من ناحية أخرى...
هذا العالم الذي تنعدم فيه قيم التسامح والتضامن والتآخي وتحضر فيه قيم سلبية من التنافس اللاإنساني والوحشية القاتلة والحرب الاستنزافية من أجل بقاء الهيمنة وقتل الإنسان بما هو قيم نبيلة دون الوعي بأن بقاء الإنسانية واستمراريتها مسؤولية كل جيل والقيم المتوارثة غايتها لا فقط استمرار النوع وإنما بقاء الحياة في هذا العالم وهذا الكوكب.
والآن وفي 2020 والعالم يقف أمام غول وحشي لا مرئي أسقط جدار العنتريات الغربية والشرقية، فالصين التي يقول مفكروها ما معناه الله خلق الأرض والباقي صنع في الصين.
Dieu a crie la terre et le reste made in china
دفعت آلاف الضجايا وتدحرجت اقتصادياتها لدرجة لا تصدق أمام عدو لا يُرى جمَّد أكثر من مليار في بيوتهم تحت إجراءات قاسية. وأمريكا الغول الليبيرالي الذي توقع فوكوياما أنه الغول الذي سيهيمن على العالم لم يجد أبسط الحلول لجائحة كورونا وتجاوزت ضحاياه ضحايا الصين، وأوروبا التي أوهمت العالم أنها الكيان الأكثر اتحادًا في العالم بعد توحيد عملتها وكيانها دفعت آلافًا مؤلفة وبانت حقيقتها بأن وهم الاتحاد عندهم زائف وصار الصراع بين بواخر الكمامات مضحكًا بل وداخل البلد الواحد، وفي إيطاليا شريحة الشيوخ لاقت إهمالاً ومات الناس الذين قامت على أكتافهم إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية في الشوارع وقد فتكت بهم الكورونا.. وخارج هذه الطاحون وهذه الكرتوغرافيا وقفت السعودية توحد العالم وتمر به إلى ما بعد عصر كورونا.
والسؤال المحير والذي أعاد الرجلين (فوكوياما وهنتنغتون) إلى سطح المشهد من جديد بعد سقوط وهم ما يسمى بالنظام العالمي الجديد: هل سيعود العالم كما كان؟
هل ستبقى أوروبا أوروبا وأمريكا أمريكا والصين الصين وروسيا روسيا؟
أعتقد أن الجغرافيا ستبقى ولكن الوزن والحضور سيتغير وستكون لدول مبادرة قمة العشرين مكانة كبيرة في الخارطة الجديدة، وكل هذا مرتبط بما سيخلص به الإنسان من دروس وعبر من هذه الجائحة، فالتضامن الإنساني شرط أساسي لبقاء النوع، والتسامح بين كل أفراد النوع البشري أمر ضروري لاستمراره وموت المارد المتوحش المتغول في الكيان الاقتصادي العالمي، وولادة بديل أمر متسامح لا مناص منه، الأخلاق ليست خارح اللعبة، والاقتصاد ليس حربًا بل تعاون بناء بين كل الشعوب، وقتل الآخر هو انتحار حقيقي لأنه بالآخر يحيا هنا وعلى هذا الكوكب وبغيره يفنى الإنسان.
وما بعد كورونا والذي بدأت قمة العشرين في التخطيط له سيكون لا كما قال فوكوياما استنادًا للدروس المستخلصة والتي استبقت إليها قمة العشرين وإنما هي أقرب لطرح أستاذه هنتنغتون عالم متنوع متضامن يسهم الجميع في نحت مستقبله.