وهكذا وبدون سابق إنذار وجدت الجامعات نفسها أمام تحدٍ كبير عندما أجبر وباء كورونا العالم أجمع للتحول من التعليم التقليدي إلى التعلم عن بعد، وحقيقة أن أزمة كورونا قد أحدثت صدمة ليست بالسهلة ليس على المستوى المحلي فقط، بل أيضًا على المستوى العالمي وهو ما سيكون له بالغ الأثر في تغيير شكل العمل الأكاديمي وأولوياته في المستقبل القريب، وأطرح في هذا المقال بعضًا من التصورات والمبادرات التي يمكن أن تسهم في قيام جامعاتنا بدور أفضل خلال الفترة الحالية.
إن أول ما يجب أن ندركه، أن ثمة فرقًا جوهريًا بين التعليم الإلكتروني كمصطلح وممارسة والتعليم عن بعد المطبق حاليًا لدينا، فنحن فعليًا لم نقم إلا برقمنة لمصادر التعلم من محاضرات وكتب ومراجع من دون أن يصاحب ذلك تطوير وتوظيف للنظريات التربوية في مجال الاستفادة من التقنية والأدوات التفاعلية في إثراء تجربة المتعلم. إذا كان التعليم الإلكتروني هو ممارسة حقيقية تحتاج وقتًا أكبر في التخطيط وتوفيرًا لوسائل تصميم المواد التعليمية وآليات التقييم، فإن التعليم عن بعد المطبق حاليًا ما هو إلا حالة طارئة لمعالجة ظرف طارئ. إن من الضروري أن نستوعب هذا الفرق في هذه المرحلة خصوصًا لكي نستطيع تقييم ردة فعلنا بالشكل المناسب من دون إفراط ولا تفريط.
وتبعًا لذلك، يجب أن ندرك أن هذا التحول الطارئ كان له تبعات ليست بالسهلة، فقد تحول العبء إلى أعضاء هيئة التدريس والطلبة على حد سواء، فعضو هيئة التدريس أصبح مطاليًا بشكل استثنائي بضرورة التحول السريع نحول التعليم الافتراضي، وتعلم البرامج والتطبيقات اللازمة، وهو جهد مضنٍ جدًا لمن أراد أن يخلص في التعليم والتقييم والمتابعة، ولذلك، فإن أفضل ما يمكن للجامعات تقديمه هو دعم جوانب التعاون والدعم والتشجيع والتحفيز، والابتعاد عن المبالغات في التنظير غير المبرر الذي قد يقود إلى إرهاق كاهل الميدان بجوانب شكلية تشغله عن أداء مهمته الاستثنائية.
وهذا يقودني للتأكيد على حقيقة رسائل التعاون والتكاتف، التي يجب أن تكون أولوية لا يمكن تحقيقها إلا بالانفتاح التام على الميدان والتواصل المباشر معه لإيصال ودعم هذه الرسالة. ولعل إدارات الجامعات تبادر في هذا الاتجاه بعقد لقاءات مباشرة مع منسوبيها من خلال برامج التواصل عن بعد، فهذا من شأنه بعث رسائل الاطمئنان والتقدير بشكل مباشر والتأكيد على أولويات المرحلة من خلال توضيح الأهداف، وفي الوقت ذاته الاستماع إلى هموم ومقترحات العاملين في الميدان، وكذلك إبراز الممارسات الإيجابية لأعضاء هيئة التدريس في مجال التعليم الافتراضي.
وحقيقة أنني أتمنى ألا تبادر الجامعات في اتخاذ أي قرار يخص الاختبارات النهائية، إلا بعد استقراء رأي الزملاء بالميدان فهم الأعلم بظروف وإمكانات وقدرات الطلبة، ولعل من الشجاعة أن نمنحهم الفرصة الكافية للتفكير في تطوير وابتكار آليات للتقييم خارج المتعارف عليه.
وفي الجانب الآخر، علينا ألا ننسى طلبة الجامعة وهم الطرف الأهم في هذه المعادلة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في أتون واقع جديد، وما نراه من ردات فعل من قبلهم في وسائل التواصل الاجتماعي ما هي إلا نتيحة طبيعية لهذا التحول الذي لم يواكبه وضوح تام في جوانب الإمكانات وآليات التقييم وهي أكثر ما يرهق الطلبة حاليًا. وإن أكثر ما أخشاه أن يصاب الطلبة بالترهل المعرفي cognitive overloading الذي يشعر المعلم بالإنجاز لكنه من دون فائدة حقيقية للطالب. وتلافيًا لذلك، ربما من الجيد المبادرة بوضع آلية لتنسيق المهام والتكليفات المطلوبة من الطلبة بما يضمن التوازن وتحقيق الحد المعقول من المهارات المتوقعة.
وفي نفس السياق، فلعل الجامعات تدرك حقيقة تباين توفر الإمكانات لدى طلبتها، والمسارعة بوضع آلية لدعم الطلبة المستحقين لتوفير الأجهزة وباقات الإنترنت. والحقيقة أنه قد أعجبني مبادرة بعض الجامعات الأمريكية بتوفير خدمات الإنترنت بسرعات عالية من خلال نقاط اتصال متنقلة Hotspots في الأماكن التي لا تتوفر فيها خدمات الإنترنت بشكل جيد.
ولعلنا في هذه الفترة أيضًا نبادر بتقييم الصعوبات التي يعاني من الطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة في الجامعات، فحقيقة أن وسائل التعليم الحالية قد لا تكون مناسبة لبعضهم نهائيًا، وبالتالي فإنه من الضروري المسارعة بالتفكير في إيجاد حلول تتناسب مع ظروفهم وإمكاناتهم ومتطلبات المرحلة.
وإضافة لما سبق، فإن الجامعات ينبغي ألا ترتهن لضغط اللحظة الراهنة، بل تحاول أن تسبق الزمن في التفكير في مآلات هذه المرحلة، ولعلنا نفكر جديًا من الآن في تصميم برامج تشخيص Diagnostics tools تستطيع الجامعات تطبيقها خلال الفصل الدراسي القادم - بإذن الله- لمحاولة علاج أي نقص معرفي سببته هذه المرحلة، وكذلك التفكير بشكل عميق في إعادة هيكلة وحدات التعليم الإلكتروني لتكون وحدات مستقلة تعنى بجوانب التنظير والتخطيط والتصميم بدلاً من أن تكون مجرد أقسام لدى عمادات تقنية المعلومات التي قد لا يكون التعليم الإلكتروني بالنسبة لها سوى مجرد تقنيات وبرامج، وأيضًا تأمل واقع الجامعات حاليًا عندما تخلت عن جميع الشكليات وركزت فقط على أداء مهمتها التعليمية، وهو ما من شأنه إعادة تقييم دور العديد من القطاعات داخل الجامعات في الفترة القادمة، والتخلي بشجاعة عن كل ما كان يشغلنا عن مهمتنا الأساسية.
وختامًا... إننا أمام مرحلة استثنائية في كل شيء لكنها تحمل في داخلها العديد من المنح التي ستعيد هيكلة رؤية وواقع التعليم ليس لدينا فقط لكن أيضًا على مستوى العالم، ونسأل الله للجميع دوام الصحة والعافية ولوطننا الحبيب دوام الرقي والتقدم.
** **
- جامعة الطائف
@falmalki1