سمر المقرن
كان الحوار ساخناً بين المصرفي الروسي والمحامي الشاب عن الأكثر أهمية «الحرية» أم «المال»، المصرفي يقول إن الحرية أهم والمحامي الشاب يقول المال أهم.
هذه مقدمة قصة قصيرة اسمها (الرهان) للأديب الروسي أنطوان تشيخوف، ذهب النقاش إلى أبعد من ذلك حيث تم الرهان على أن يبقى المحامي في سجن المصرفي 15 سنة مقابل مليوني روبل.. وتم الاتفاق.
بدت السنة الأولى مملة مليئة بالضجر للسجين، ولكن سرعان ما بدأ يطلب من المصرفي عبر ورقة يبعثها له عدداً من الكتب، ثم يطلب غيرها وغيرها حتى مرت ست سنوات وقد قرأ أكثر من ستمائة مجلد وكتاب في الفلسفة والأدب والتاريخ وتعلم بإتقان لغات عالمية أخرى، ثم مضت السنين فطلب بيانو وتعلم العزف على البيانو، ثم مضت السنين وعكف على قراءة كتب عن الأديان واللاهوت، وفي الليلة الأخيرة شعر المصرفي بأنه سيفقد المليوني روبل، فتسلل إلى الزنزانة ليقتل المحامي قبل ساعات معدودة من انتهاء الرهان، جاءت المفاجأة أن وجده منكباً على الطاولة بلا حراك اقترب منه ولم يتحرك، وجد ورقة كتب فيها رسالة للمصرفي تناول الرسالة وقرأها، وكان منها:
(كنت بواسطة كتبك قد تسلقت قمم مون بلان وشاهدت منها كيف تُشرق الشمس في الصباح، وكيف ينتشر الظلام في المساء. شاهدت كيف ينتشر اللون الذهبي الأرجواني على المحيط وعلى سلاسل الجبال. شاهدت من هناك كيف يخترق البرق الغيوم. سمعت صوت غناء جنيّات البحر، ولمست أجنحة الملائكة التي كانت تطير من حولي والتي كانت تأتي إلي لكي تتحدث عن عظمة الله.
منحتني كتبك الحكمة، وبذلك تكثفت في جزء صغير من جمجمتي، جميع الأفكار الإنسانية التي لا تَفنى، جميع الأفكار التي كانت قد اختلقت عبر القرون، وأنا أعلم بأنني الآن الأكثر ذكاءً منكم جميعاً).
وفي نهاية الرسالة كتب: (سوف أتنازل عن المليونين، وأخرج من هنا قبل خمس دقائق من الموعد المنصوص عليه، وهذا ما سوف يُخلّ بشروط الاتفاق).
من هذه القصة قد تجد بعد قراءتها أن السجين وجد في عزلته ما هو أثمن من المليوني روبل، وجد في سجنه الحتمي ما لم يجده في حريته الممكنة، وجد زوايا لم يكن ليصل إليها لو لم يختلِ بها، وجد في ثنايا روحه حب لأشياء لم يكن يعلم أنه يحبها، تعلم مالم يكن باستطاعته تعلمه لو كان حراً طليقاً، وجد في حبسه انطلاقاً لعوالم جديدة ومبهرة وثرية، فقد حرية جسده ليطلق العنان لحرية عقله وروحه وحواسه.
وها نحن نعيش اليوم عزلة فرضتها علينا جائحة كورونا، فلماذا لا نكتشف عوالمنا الخفية ونطلق حرية أرواحنا وأفكارنا عوضاً عن حرية الجسد التي -أحياناً- تحبس حرية الخيال والإبداع والتعلم.
لم نكن نطلب العزلة ولكن وهبت لنا، لم نقاتل من أجل الحبس ولكنه أتانا من غير إرادة منا، لم نسع للخلوة ولكنها تسللت من بين درفات نوافذنا، هي فرصتنا لنكتشف حقيقتنا ونخاطب أرواحنا التي بتنا لا نعرفها!