د.عبد الرحمن الحبيب
منذ قرن سطع نجم النموذج الأمريكي بنجاحه العملي المبهر بالمجالات العلمية والتكنولوجية، فضلاً عن التفوق الصناعي والاقتصادي والعسكري والنظم الاجتماعية، فحصل على سمعة عالمية طاغية بالكفاءة والاحترام. ثقة الدول بالدولة العظمى كأنموذج تجعلها تفضل بضائعها، يتحالفون معها ويعقدون الصفاقات العسكرية والاقتصادية، يرسلون أبناءهم لمؤسساتها العلمية.. وبالمحصلة تصبح حضارة تُحتذى. هذه السمعة لا تقدر بثمن (مادياً ومعنويًا) لكنها أصيبت بعلل في السنوات الأخيرة ليأتي كائن ضئيل قد يُجهز عليها!
كتب المفكر الأمريكي ستيفن والت (أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد) مقالاً الأسبوع الماضي بمجلة فورين بولسي بعنوان: «وفاة الكفاءة الأمريكية» مذكراً أن سمعة واشنطن بالكفاءة والخبرة كدولة «تعرف كيف تعمل الأشياء بفعالية هي واحدة من أعظم مصادر قوتها، لكن قد ينهيها وباء كورونا إلى الأبد..» ذاكراً أن ذلك لم يحدث بين عشية وضحاها بل «إن أمريكا على مدى السنوات الـ25 الماضية، قامت تدريجياً بتبديد «تلك السمعة النفيسة للقيادة المسؤولة والكفاءة الأساسية».
وباء كورونا الذي يشكل أكبر أزمة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية، كشف عن تداعيات كثيرة ستهز أو تغير النظام الدولي برمته، رغم أنه من المبكر الجزم بذلك أو باستمراريته، مثل تقليص سلاسل التوريد متعددة البلدان وما نتج عنها من ضخامة العمل عن بُعد، وتراجع العولمة وضعف التعاون بين الدول وتعزيز انطوائها على ذاتها، حتى وصل الأمر داخل دول الاتحاد الأوروبي أن حظرت فرنسا وألمانيا تصدير أقنعة الوجه بينها تاركة دول كإيطاليا تصارع وحدها لتأتيها النجدة من الصين وروسيا.. «إنها فضحية!» كما قال بعض المحللين الغربيين.. أما في أمريكا، فكان النقص بالأدوية والمعدات الطبية بسبب تعطل سلسلة الإمداد التي تعد الصين أهم حلقة فيها (مجلة تايم، أيان بريمير). وفي الأسبوع الماضي فقد نحو 3.3 مليون أمريكي وظائفهم ويتقدمون بطلبات للحصول على إعانات البطالة (بي بي سي).
لقد أظهر الأوروبيون والأمريكان فشلاً مريعاً في التعامل مع الوباء يقابله نجاح في شرق آسيا (الصين، كوريا الجنوبية، اليابان، سنغافورة)، بل بلغ الأمر بالأوربيين والأمريكان بطلب المعونة من الصين ولومها في نفس الوقت، وهم الذين طالما وبَّخوا غيرهم مطالبينهم بوقف لوم الآخرين والإصلاح من الداخل! الآن يواجهون نقصاً في الاستعدادات، بالتمويل الغذائي وبالتجهيزات الصحية، وتخبط بالقرارات.. فهل انهار النموذج الغربي مع أزمة كورونا؟
فكرة «نهاية الغرب» ليست وليدة أزمة كورونا بل إنها بزغت مع انهيار الاتحاد السوفييتي، ففي المقدمة الإعلانية لمؤتمر جون أولن بجامعة شيكاجو (1989) جاء: «أن أغلب المفكرين ناقشوا بشكل ما موضوع أزمة الغرب أو أفوله.. وفكرة نهاية الغرب ليست قضية سياسية ولكنها ضربة في الصميم، تحتاج تنقيحاً في إدارتنا ومفهومنا لحضارتنا وتربيتنا». منذ ذلك الوقت توالت النقاشات حول موضوع «نهاية الغرب»، لكنها كانت هامشية.
مرت السنوات مراكمة تفوق الاقتصاد الصيني وتبعه الهندي على الأمريكي.. ثم تلاها سياسة ترامب الحمائية ورفضه لقواعد التجارة العالمية، وشعاره «نحن نرفض أيديولوجية العولمة، ونعتنق مبدأ الوطنية»، مما أدخل أمريكا في بداية مرحلة من الانعزالية.. والآن أتى أكبر اختبار للنموذج الغربي بقيادة أمريكا..
لقد فشلت الولايات المتحدة في اختبار القيادة كما تقول كوري شاك (نائبة مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية): «لن يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها زعيم دولي بعد الآن.. بسبب المصلحة الذاتية الضيقة لحكومتها وعدم الكفاءة الفادحة. كان من الممكن تخفيف الآثار العالمية لهذا الوباء لحد كبير عبر قيام المنظمات الدولية بالتبكير بالمعلومات وتوفير المزيد منها، مما كان سيعطي الحكومات الوقت لإعداد وتوجيه الموارد لمن هم بأمس الحاجة إليها. هذا شيء كان يمكن للولايات المتحدة تنظيمه، لكنها مهتمة بذاتها.. لقد فشلت واشنطن في اختبار القيادة، والعالم أسوأ حالاً بسبب ذلك»
أما المفكر السنغافوري كيشور محبوباني (وزير خارجية سابق) فيرى أن كورونا لم يغير بل «سوف يسرع فقط من التغيير الذي بدأ بالفعل: الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين». معللاً السبب بأن أمريكا متضررة من العولمة بينما الصين مستفيدة، وأن الشعب الصيني يشهد انطلاق الثقة بقدرته على المنافسة بأي مكان.
ويشاركه بذلك ستيفن والت: «سوف تسرع كورونا من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق. وقد استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل، وكان رد فعل الصين جيدًا بعد أخطائها المبكرة. كانت الاستجابة في أوروبا وأمريكا بطيئة وعشوائية بالمقارنة، مما زاد من تشويه هالة «العلامة التجارية» الغربية.
لكن البروفيسور جون إيكنبيري (جامعة شيكاغو) يرى أنه رغم انتقال الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية الأخرى عبر سلسلة ردود الفعل الانطوائية مدفوعة بإحساس متراكم بالضعف، وكانت استجابتها أكثر وطنية وأقل عالمية في البداية، ولكن على المدى الطويل، ستخرج الديمقراطيات من قوقعتها للعثور على نوع جديد من البراغماتية والعولمة الحمائية.
هل غربت شمس النموذج الغربي وآذنت بالأفول؟ قد يكون بعض هذا الاضطراب مؤقتًا وبعضه مستديمًا، لكن الأكيد أن هناك ثغرات تقوض بنية النموذج الغربي منذ فترة، وقد يكون كورونا هو القشة التي قصمت ظهر بعير هذا النموذج.