دور العقل الجمعي في تأسيس المفاهيم الاجتماعية يُمثِّل جوهر السُّلطة الفكرية ذات السيادة المعنوية على إفرازات الحياة اليومية. وهذه الحقيقة ترجع إلى كون العقل الجمعي هو المؤهَّل لتفسير ثقافة الأفراد، وعلاقاتهم الاجتماعية، وسلوكياتهم الحياتية النابعة من التفاعل مع الأحداث الواقعية والأحلام الخيالية. والعقل الجمعي ليس صيغة من قواعد التعامل الاجتماعي الجامدة، والتعليمات المحفوظة مسبقًا، وإنَّما هو مرآة تعكس درجة رقي المجتمع روحيًّا وماديًّا. وهذا الرقي قائم على أساس القدرات العقلية في جمع المعلومات، وفحصها، وإيجاد روابط منطقية بينها، والاستفادة منها في التخطيط للحاضر والمستقبل، ولا يقوم الرقي على هَوَس المنظومة الاستهلاكية، لأن التقدُّم الحقيقي يكمن في صناعة العقل القادر على استخدام العِلم النافع لمنفعة البشرية، وليس صناعة التوحُّش الاستهلاكي، وحُمَّى الشراء والتسوق، والغرق في المنتجات المادية للحضارة البشرية، واستنزاف موارد الطاقة، وتدمير البيئة والمناخ، وقتل رُوح الإنسان، وإرهاق جسده.
الوظيفة المركزية للعقل الجمعي في الحضارة، هي منع التعارض بين المسار والمصير، لأن الغاية الشريفة يجب أن يكون الطريقُ إليها نظيفًا، والطريق إلى البيت الجميل يجب أن يكون جميلًا، لأن الجمال مبدأ أساسي مطْلَق، لا يتجزَّأ، ولا يتغيَّر حسب المصالح الشخصية والظروف الاجتماعية. ولا يُوجد عاقل يبني بيتًا جميلًا في مكان مليء بالقمامة. وهذا الاتصال الوثيق بين المبدأ والغاية، يشير إلى الترابط الوجودي الحتمي بين العقل الجمعي، باعتباره المتحدِّث الرسمي باسم ذكريات الناس وأحلامهم وآمالهم، وبين الإفرازات الاجتماعية للحياة اليومية. وكما أن الإنسان ابن بيئته، كذلك العقل ابن بيئته، ولكن بيئة الإنسان تستمد شرعيتها من الحركة في المجتمع والتعامل مع الناس، أما بيئة العقل فتستمد شرعيتها من الحركة في الخيال والتعامل مع الأفكار، ومحاولة نقلها إلى المجتمع، لتغيير حياة الناس إلى الأفضل. وإذا كانت بيئة الإنسان قائمة على التفاعل المادي مع الأشخاص والأحداث اليومية، فإن بيئة العقل قائمة على التفاعل الرمزي مع تاريخ الأشخاص المسْتَتِر (الذكريات والأحلام والمشاعر)، وتاريخ الأحداث الخفي (الأسباب الحقيقية للسلوكيات الفردية والجماعية). والفرق بين بيئة الإنسان وبيئة العقل يجب أن يكون دافعًا للتكامل، وليس الصراع. والإنسان بلا عقل يتحوَّل إلى وحش شهواني كاسر، والعقل بلا إنسان يتحوَّل إلى أداة للقتل وتدمير منجزات الحضارة. وبالتأكيد، لا تستطيع أية حضارة - مهما كانت إنسانية ومتقدِّمة وراقية - أن تمنع الجرائم، ولكنها تستطيع رفض تبرير الجرائم، ومنع إيجاد شرعية لها. ولا يمكن إيجاد إنسان بلا ذنوب، ولكن يمكن إيجاد إنسان بلا تَوَحُّش. وهذا يعني ضرورة تحقيق الشرط الإنساني في الحياة، أي أن يكون الإنسان إنسانًا حقيقيًّا، ولا يكون وحشًا يرتدي قِناع الإنسان.
من أجل إيجاد حضارة أكثر إنسانية ورحمة وأخلاقًا، يجب قتل الوحش النائم في الإنسان، وتطهير الحضارة من التوحُّش الاستهلاكي الكامن فيها. وهذه المهمة الصعبة لا يمكن الوصول إليها إلا بتكريس معاني البذل والعطاء ومساعدة الآخرين والعمل التطوُّعي، وتنظيف المسار الحضاري من مفاهيم القهر والنهب والإذلال والأنانية، وبناء المجد الوهمي على شقاء الآخرين وتعاستهم. وكما أن العالَم يتوحَّد لمواجهة جُرثومة صغيرة تَجعل مصيره على المِحَك، يجب عليه أيضًا أن يتوحَّد لمنع الحضارة من التحَوُّل إلى جُرثومة كبيرة تُدمِّر حاضر البشر، وتقضي على مستقبلهم. وكما أن غسل الأيدي مهم لمنع وصول الأمراض إلى الجسد، كذلك غسل القلوب مهم لمنع وصول الأمراض إلى الرُّوح. وإن العاجز عن حماية رُوحه، سيكون أكثرَ عجزًا عن حماية جسده. ومن المنطقي أن يكافح الإنسان الأوبئة والأمراض، ويسعى إلى تطهير الحياة من الجراثيم، لكن الكارثة عندما يتحول الإنسان إلى جُرثومة ضد أخيه الإنسان، ويصير وحشًا كاسرًا ضد المدنية، وخطرًا حقيقيًّا على الوجود البشري.
الحيوان الذي يتصرَّف كحيوان، يمارس دوره المرسوم له بدقة، ويؤدي مهمته في النظام البيئي بكفاءة ونشاط. لكن الإنسان الذي يتصرَّف كحيوان، يخون إنسانيته، ويُسيء إلى نفسه، وهذا هو السقوط الأخلاقي المريع، والانهيار الشامل، والانتكاسة الصادمة. ولا توجد مشكلة في وجود الذئب في الطبيعة، لكن المشكلة في تَحَوُّل الإنسان إلى ذئب لأخيه الإنسان.
حُبُّ التملُّك الجنوني إذا سيطر على الإنسان، قاده إلى ارتكاب الجرائم وافتعال الحروب بأشكالها كافة. ومحاولة الاستحواذ على كل شيء، وعدم الاعتراف بحقوق الآخرين وأحلامهم المشروعة، يؤدِّيان إلى انتشار القتل العبثي، والحروب التي لا تنتهي. وهذا سيكون على حساب الإنسان والحضارة والمناخ. وإن الموتى الذين يتحركون على ظَهْر الأرض هم الخطر الحقيقي على الحياة، وليس الموتى في بطن الأرض. وموتُ القلوب هو الانتحار التدريجي الذي يجعل الإنسانَ كيانًا فارغًا، بلا مشاعر ولا أحاسيس ولا إنسانية. وسيظل موت الإنسان في الحياة هو التحَدِّي الأبرز في الوجود، والامتحان الحقيقي لضمير الحضارة.
** **
إبراهيم أبو عواد - كاتب من الأردن