رقية نبيل
«لكن هل تعنين إذًا أن الناس من ذوي البشرة السوداء ليسوا بشرًا سواءً بسواء مثلنا؟»
هكذا سألت السيدة البيضاء الرقيقة والتي كانت تحسن معاملة رقيقها في تعجب، وجاءها الجواب من سيدة بدينة بيضاء تفرط في وضع أحمر الشفاه وبدرة الوجنتين وهي تهوّي بمروحة أنيقة وجهها المشمئز وتقول في تأكيد قاطع: «بالطبع لا، مستحيل أن يكون الرب قد وضع في صدري ذات القلب الذي وضعه في عبدتي الزنجية السوداء».
ورد هذا الحوار القصير في رواية «كوخ العم توم» لكاتبتها المذهلة «هيريت ستو» الرواية التي فتحت أعين العالم للمرة الأولى وشدت آذانهم التي كانوا قد أغلقوها بحزم وعناد للوضع البديهي الواضح كالشمس الذي يسري في أرجاء بلدان المعمورة: وهو أن البيض جميعًا بشكل أو بآخر قد استحالوا وحوشًا آدمية وأن أياً كان ما في صدورهم فهي ليست قلوبًا بالتأكيد، ليست قطع لحم تنبض وتضخ دمًا، بل هي حجارة صماء قاسية وهمجية جدًا جدًا، هذه الرواية التي ستهيج الإنسي من ذوي البشرة السوداء في أنحاء الأرض وستجعلهم يصرخون صرخة واحدة ويمسكون بأيدي بعضهم البعض ناتئة العروق، الشائهة من جراء تعذيب الإنسان الأبيض لهم لعدة قرون خلت، سيتحدون أخيراً صفًا لصف كتفاً بكتف وبينهم قلة قليلة تظهر على استحياء لكن بشجاعة تامة بيضاء، الصرخة التي سيكون من أثرها إلغاء قانون العبودية وتحرّر آلاف الأسر آلاف النساء آلاف الأطفال من مصير مظلم بهيم طويل وملتوٍ وشديد القتامة كان ينتظرهم في جشع!
«وفي عام 1792 كانت الدنمارك أول دولة أوروبية تلغي تجارة الرق وتبعتها بريطانيا وأمريكا بعد عدة سنوات. وفي مؤتمر فينا عام 1814 عقدت كل الدول الأوروبية معاهدة منع تجارة العبيد. وعقدت بريطانيا بعدها معاهدة ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1848 لقمع هذه التجارة».
ورغم أن هذا تم في القرن التاسع عشر ظلت المعاملة السيئة والتنكيل بهم يلحق المستضعفين من السود حتى أوائل التسعينات، من أكبر الأمثلة جمعية كوكلس كلان التي اشتهرت بتاريخها العريق في حرق كنائس السود والاستمتاع بشيهم أحياء!
لا أكتب تدوينتي هذه لشيء إلا للتعجب، قد تبدو كلمات مثل «تعذيب»، «حبس»، «تمزيق»، «تفريق أسر» كلمات مؤلمة لكنك بالكاد تحسها ولا تترك أنفاسها الحارقة فوق صدرك، غير أن الأمر بحق لا يصدق، تخيل أن يصل العته بإنسان إلى حد أن يقتنع تمامًا وبمنتهى الثقة أن هذا الإنسان الذي هو مثله تمامًا في كل شيء يملك ذات القلب والعروق والرئتين، فقط هنالك اختلاف في الملامح فقط اللحم العاري يغطيه جلد مختلف اللون، من هذه النقطة زجوا به في أقفاص باعتباره مرحلة وسطى بين القردة وبين البشر!
لقد ظلت أمريكا - بلد العدل كما يدعون - لسنوات طوال تعج بالبيض الطافحة أرواحهم بالبغض الهائل لذوي البشرة السوداء يرونهم أسفل منهم في كل شيء لا حق لهم في ارتياد حاناتهم لا حق لهم في السكنى بجوارهم لا حق لهم في أي وظيفة تعلو عن الانكباب في مكبات القمامة طيلة النهار، لا حق لهم ألبتة في تنفس ذات الهواء الذي يلج منخارهم الثمين!
أعني أنهم آمنوا بذلك كما آمنوا بالشمس تشرق من شرق الكون وتغرب من غربه، أيقنوها كما أيقنوا الموت والحياة والإنجاب والتنفس.. كمسلَّمات بديهية لا يناقشنها أحد! وقد تجد أحدهم يبكي مشمئزًا وشاعرًا بالقهر للتدني الذي وصل إليه العالم حينما يجد زنجيًا يكسب أفضل منه أو يعيش حياة كريمة أكثر من تلك التي يحياها.
أوقات كثيرة أفكر في قوله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس ألا إنّ ربكُم واحدٌ وإنّ أباكُم واحدٌ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى»، وأستشعر برهبة عظمة الإسلام، مقولة واحدة توجز وتلخص كل شيء، أفكر كيف أنه في أوقات كان يتم خطف الرضع من أمهاتهم السوداوات وإلقاؤهم في عرض البحر ليلاً فوق سفينة تحمل آلاف العبيد كيما تتم صفقة انتقال المرأة إلى يد مالكها الجديد دونما مشاكل، أفكر في هذا وأتذكّر أن هذا الحديث كان موجودًا وقتها وأريد أن تلف بي عجلة الزمن لأصيح إليهم «انظروا هذا هو الحديث ها هو فصل الختام! إنهم مثلنا والله مثلنا أنتم مخطئون تريثوا قليلاً فقط، فكروا قليلاً فقط، إنهم يملكون ذات اللحم الأحمر من الداخل لا فرق لا فرق لا فرق...»