د. سلطان سعد القحطاني
الفصل الثاني: التجربة الفنية الأولى:
لقد أشرنا فيما سبق إلى بعض الجزئيات الأدبية، من قصة ورواية تقليدية، وهذا شيء طبيعي، في حياة الأدب في كل مكان، وحسب الظروف التي يكون الأدب وليدها. وفي هذا المحور سنتحدث عن ظهور أدب نثري حديث البناء والمضمون، وذلك من أثر قراءات بعض الموهوبين ممن عايش الحياة في بعض البلاد العربية التي سبقتنا في التعليم والفن القصصي، ومن ضمنه الرواية(29) وكان هؤلاء من المتأثرين بالفن الروائي الحديث، والترجمات التي سادت على أيدي المهاجرين الشوام، الذين أسسوا الصحافة في مصر(30) وبعض السعوديين الذين أجادوا اللغات الأجنبية.
وإذا عرفنا معنى التأثير والتأثر، فسنجد الأول فعلاًً مباشراً للمؤثِّر، والثاني فعلاً للمؤثَّر فيه، فالأول (أثَّر، يؤثر، تأثيراً) والثاني (أثَّر، يتأثّر، متأثِّراً) ومن هذا التصريف للفعل (أثَّر) في مصادره الصرفية، نستشف هذه العلاقة العلمية في الثقافة الفنية بظهور نص أدبي حديث، ولا يمكن أن توجد هذه العلاقة وفعلها إلا في إنتاج محكم من موهوب يستطيع حذق صناعتها، بالفطرة أولاً، ثم بالدربة ثانياً. هذه مقدمة أردت منها أن تكون مدخلاًً للرواية والقصة القصيرة، في مجتمع مترامي الأطراف، وكل طرف يتأثر بما جاوره من البلاد التي دخلتها الفنون الحديثة. ومن خلال هذه الجزئية سنجد عدداً من الشباب تأثروا بالبلاد التي تقدم فيها الفن القصصي بأنواعه، وكثير منهم عايش تلك التطورات في مضانها. ومن باب أولى ذكر ما تعلمه الموهوبون من الدارسين في مصر، في بداية البعثات الطلابية في مرحلة متقدمة من عمر الدولة السعودية، كما ألمحت قبل قليل، من وجود الصحافة، إضافةً إلى الجامعات المصرية، والمنتديات الثقافية، وغيرها من مصادر الثقافة، وهذا ليس بخاف على كل متابع للأحداث الثقافية في القرن العشرين. ولم يكن عدد المبتعثين قليلاً، لكن الموهوبين منهم قليل، وهذا ليس عيباً يذكر عن الآخرين، وكل ميسر لما خلق له، لكن واجبنا التوضيح وإعطاء كل ذي حقٍ حقه. وقد ظهر في هذه المرحلة من عمر الرواية والقصة القصيرة، على وجه التحديد بعض الأعمال التي غيرت مجرى الرواية من تعليمية إلى فنية حديثة، وقلنا إنها كانت ضرورة لكل فن جديد على المجتمع الذي ظهر فيه، وبالرغم مما يقال حول هذا الموضوع، فقد استقبلت تلك الأعمال بالترحاب والمتابعة، وهذه الأعمال كانت من خلفيات كتابها ثمرةً لدراستهم خارج المملكة، وهذا لا يعني أن الذين لم يدرسوا خارج المملكة لا يستطيعون كتابة رواية حديثة، لكن القصد أن أولئك الكتاب، كانت لديهم القدرة على ما أتيح لهم قراءته من الفن الروائي، فالروائي إبراهيم الناصر الحميدان، دَرَس في العراق في بداية حياته، وكان الكتاب في العراق في ذلك الوقت متوفراً في جميع التخصصات، وكما كان يذكر أن جده لأبيه كان يتاجر بين العراق والهند، ويحضر له الكتب من هناك (في لقاء بيني وبينه ذكر لي ذلك) رحمه الله. وكان إصداره الأول مجموعتيه القصصيتين (انظر مسرد المصادر في هذا البحث) ثم روايته الأولى، التي صدرت في نفس العام (ثقب في رداء الليل)1960م،الذي صدرت فيه رواية حامد دمنهوري، لكن الدمنهوري كان قبله بأشهر قليلة، وهو غزير الإنتاج، مخلص لفنه، مطور له في كل حقبة مر بها، وكانت بداياته بالقصة القصيرة كما ذكرت، ثم الرواية، ويعتبر من مؤسسي فن الرواية الحديثة(31) كما أشرت، فأصدر أكثر من ثمان روايات، بالإضافة إلى مجموعاته القصصية، التي ذكرنا بعضاً منها، وقد حاز على تقدير الجهات الثقافية الرسمية بمنحه عدداً من الشهادات والأوسمة، والحميدان، الذي كان يوقع باسمه الثنائي، اضطر عند رغبة أبنائه أن يوقع باسم العائلة فيما بعد، كما أنه كان محدِّثاً لفنه في كل حقبة مر بها على مدى أربعين عاماً أو تزيد، وقد دُرست رواياته من عدد من الباحثين في الرواية السعودية(32) باعتباره أحد فرسانها الذين حولوا الفن الروائي إلى مصطلحه الذي هو عليه اليوم(33) فكان يساير كل حقبة تجديد في الرواية التي وهب نفسه لها بالرغم من عمله خارج الدوائر الثقافية، فقد عمل في شركة أرامكو ثم انتهى به المطاف إلى العمل مديراً لشئون الموظفين في بنك الرياض إلى تقاعده. وممن كان له الأثر البالغ بجانب الحميدان، بل قبله بقليل، حامد دمنهوري، ويعتبر الدمنهوري أبو الرواية الحديثة، وذلك لم يأت من فراغ، فقد عاش فترة من حياته في مصر، التي تعتبر أم الفنون الحديثة آنذاك، مما اكتسبه أبناؤها من التعليم الحديث، ووفود الجاليات الشامية إليها بما تعلموه من فنون الرواية والمسرح، أمثال جرجي زيدان، الذي أثرى الفن القصصي برواياته، وإن كان بعض الدارسين يلاحظ عليه بعض الشطحات، لكنه على العموم أثرى الأدب من خلال مجلته، الهلال التي ما تزال تصدر في مصر، حتى أصبحت مرجعاً مهماً للحياة الفنية الثقافية. أصدر الدمنهوري روايتين، ما بين عامي1959، 1963م، ولم يمهله القدر لإكمال مسيرته الفنية، كما أكملها مجايله (الحميدان) وكانت الأولى بعنوان ثمن التضحية، والثانية كانت بعنوان، ومرت الأيام، وكان متأثراً بالمذهب الرومانسي في زمانه، فقد ضحى بحب فتاة مصرية أحبته، في سبيل ابنة عمه التي كانت موهوبة له حسب التقاليد الأسرية آنذاك، وحازت أعماله على مسرحتها إذاعياً، وهو من رجال التعليم منذ تخرجه إلى وفاته حتى وصل إلى درجة وكيل وزارة، حتى وفاته(34) ويعتبر الدمنهوري وزميله الحميدان، أول من حول الفن الروائي إلى الفن الحديث، بما اكتسباه من دراية بالفن الروائي الحديث، وما وهبهما الله تعالى من موهبة، ومثابرتهما على توير فنهما. ولم يمهل الله تعالى الدمنهوري ليواصل مشروعه كما أمهل الحميدان، الذي سجل خطاً بيانياً في مسيرته الفنية، وفتح باباً واسعاً للمواهب الشابة في حينه لتطوير هذا المشروع الوطني الرائد في السنوات الأخيرة في سجل الرواية العربية، فأقبل الدارسون عليها بكثافة تدل على أهميتها(35) وأهمية كتابها من خلالها، وأنها تعالج كثيراً من مشاكل المجتمع، بأسلوب روائي حديث، أخلف فيه كثير من الكتاب، الذين كتبوا سرداً ضعيفاً، سموه رواية.