سهام القحطاني
«العزلة زاوية صغيرة، يقف فيها المرء أمام عقله»
(دستويفسكي)
ترتبط أهمية الأمور بتقديرنا لمفهومها، وكيفية الاستفادة منها؛ وبالتالي فالنسبية هنا فاعل معلوم بالإدراك والفهم والقصدية.
والتقدير غالبًا مؤثر متحكم في تنشئة مفاهيمنا ومواقفنا وحتى أفعالنا القولية والوجدانية وارتداداتها.
يتشكل إدراكنا وفق ما نفهمه، وكيف نفهمه. ودلالتا الماهية والكيفية غالبًا ما تُسهمان في تكوين المتلازمات، سواء بالتوازي أو الشرطية. وهي متلازمات تتحكم في إنتاج دورة علاقاتنا الـفكرية، وارتباطاتها التفسيرية.
وفكرة «العزلة» وكل الإيحاءات الدلالية التجاورية التي قد تستدعيها الخبرة المعرفية للمرء أثناء مقابلتها لهـذه الفكرة أو الاحتكاك بها بفعل الضرر أو الضرورة غالبًا ما تواجه بمقاومة، سواء ظاهرة أو مبطنة، لفظية أو رمزية.
وتلك المجاورات الدلالية هي التي تجعل المرء يقاوم «فكرة العزلة»، أو ما يوازيها معنى ولفظًا.
الإنسان بطبعه كائن «جمعي»، والمجتمع لا يمثل له فقط تداولاً وظيفيًّا بما يحقق التكاملية، بل - وهو الأهم - حماية نفسية، تتمثل في الإحساس بالحب والأمن والطمأنينة. وهذه الحماية بمنظومتها الشعورية تصبح في مرمى الخطر إذا اضطرب المسار الجمعي، واتجه نحو الفصل والانعزال؛ لأنه مؤشر على اختلال التكاملية في مستوييها المادي والمعنوي، واختلال لأمن الكينونة واستقرارها.
وهـذا الاختلال الأمني الـذي تشعر به الكينونة البشرية هو حاصل الدلالات الموازية «لفكرة العزلة».
تمثل المعاني الموازية لأصل الدلالة ذات التأثير الفكري والوجداني ومواقفها الارتدادية، ومع التعود والشيوع وتراكمية التمثيل بنية التواري تتحول تلك المعاني إلى دلالات موازية لأصل الدلالة.
وبذلك تتعدد الدلالات الموازية «لدلالة العزلة» لتشمل: الحجر والنفي والإقصاء والنبذ والحبس.
وهي دلالات لتمثيل «حالات غير سوية» أو «شرائح شاذة»، وبذلك نحن أمام «عرف ثقافي»، شكلته تلك الدلالات الموازية وارتباطاتها التوصيفية وشواهدها التمثيلية.
فكل «غير سوي وشاذ» يتجدول ضمن تلك الدلالات المتوازية؛ وبذلك تُصبح في ذاتها مصدر حكم ومعيار لانتفاء التقدير والقيمة، ومعادلاً للنقص والعار والإثم.
وغير السوي والشاذ بدورهما يمثلان «توهمًا تصوريًّا»، سواء في مصطلح التعريف أو التصنيف المعياري، كل مجتمع يشكله وفق مدونته الأيديولوجية بأنظمتها المختلفة ومقاصد سلطتها العامة، وهو يجعل تلك الدلالات الموازية للعزلة توصيفيًّا ومعياريًّا «نوعًا من العقاب»؛ يقوم على تجريم المختلِف، ومصادرة حقه في الاختلاف.
وهو عقاب تبلور في صور عدة، من أخطرها التمييز العرقي والديني والفكري الذي تحول في المجتمعات إلى مسوغ للنبذ والإقصاء.
وهو عقاب أنتج مظاهر ثقافية عبر التاريخ، مثل جماعة الصعاليك والأدب الصوفي وأدب الأقليات.
هـذا الارتباط بين العزلة ودلالاتها الموازية، وغياب القيمة والتقدير، وتحويلها إلى قانون، هي التي تدفع المرء لمقاومتها تحت أي غطاء؛ لأنها تُكسبه هوية المُعاقَب.
لكن العزلة ليست دائمًا المعادل للحبس والنبذ ومؤشر اكتئاب؛ بل هي غالبًا «طقس محفز للإبداع»؛ فهي صومعة الفلاسفة، وهي بيت الابتكارات التي غيّرت حياة الإنسانية، وهي السماء للصوفي، والإلهام للمبدع، والفكرة للعبقري.
وهي وسيلة لتطهير ذواتنا كلما أثقلتها الهموم؛ فهي - كما يقول إرنست همينغوي - «وطن للأرواح المتعبة»، ووسيلة لإعادة اكتشاف ذواتنا كلما وقعنا في فخ الرتابة والاستنساخ، ولإعادة اكتشاف من حولنا؛ ففي زحمة الركض لا نميز بين الوجوه والأقنعة، وفي ضجيج الأقوال وبلاغتها لا نميز بين الحق والباطل، وفي تزاحم المشاعر لا نميز بين الصادق والكاذب.
العزلة فقط هي التي تجعلك تعيد ضبط ميزان تمييزك للأشياء.
استمتعوا بعزلتكم قبل أن يعود وحش الضجيج.