كان بعض زملائنا الذين سبقونا بدارسة الماجستير في النحو والصرف في جامعة الإمام محمد بن سعود يذكرون من صعوبتها وطولها، وكثرة التكاليف فيها، وضرورة الانقطاع للإنجاز، والصبر في الاستذكار، والتردد على المكتبات العامة للمراجع؛ فلا مكتبتك الشخصية بكافية، ولا علاقاتك الاجتماعية بباقية، وأما أيام الاختبار فهي أيام شداد، لا مجال للعودة فيها إلى الأهل، ولا مناص من الانقطاع والعزلة، ولكن كثيرًا ما يكذب خبر المهوِّلين، ويخيب ظن المتشائمين؛ فقد مرت السنة كما مرَّ غيرها، فما من شدة إلا ولها من الله تسهيل، وكان أوَّل ما نفحنا من نسيم الطمأنينة كلمة افتتح بها د. عبد الله الخثران محاضرته الأولى، وكان عددنا ثمانية: «أنتم لستم ثمانية طلاب، أنتم ثمانية أصدقاء جدد.. اليوم زاد أصدقائي ثمانية»!
حضرنا أول يوم في الدراسة 13 من جمادى الآخرة عام 1422هـ، ينفحنا الرجاء حينًا، ويلفحنا الخوف حينًا، غير أن الأمل غالب، واليأس مستبعد مغلوب، اجتمعنا جميعًا، لم يتخلف منا أحد، وكان النحو مفتتح الأسبوع، غير أن أستاذه د. محمد المفدى لم يحضر، فاتصلنا به هاتفيًّا فأفادنا بأن الجدول لم يستقر بعد، وطلب منا أن نُحضِر الأسبوع القادم كتاب سيبويه وشرح التسهيل لابن مالك.
لم يغب الشيخ بعدها، بل لم يتأخر دقيقة واحدة، بل كان يسبقنا إلى القاعة، في انضباط تام، والتزام قلَّ نظيره.
كانت محاضرة النحو تفاعلية شَيِّقة، نقرأ النص، ونتناقش فيه، فكرة فكرة، وفقرة فقرة، وربما كلمة كلمة. كنت من قبل أقرأ في سيبويه والمغني وشرح الكافية، موثقًا قولاً، أو مراجعًا مسألة، فلما قرأناها معه تبينت كم كنت جاهلاً بخفايا النص وأبعاده، فكانت التعليقات تزين حواشي نسختي، والخطوط والأسهم تتخلل الأسطر؛ لتبقى مرجعًا ثريًّا يجيب عن كل تساؤل في هذه الأبواب التي قرأناها عليه.
كان انضباط د. محمد خلقًا غير متصنع، وطبعًا غير متكلف، في وقته، وفي جديته، وفي عدله ودقته، كان متعارفًا بيننا نحن الطلابَ أن الدرجة في اختبار مادته تعرفها بعد الاختبار مباشرة، قبل التصحيح، من خلال معرفة الجواب الصحيح؛ فالسؤال محدد، والإجابة واحدة، والدرجة موزونة على مقدارها، فلا موضع للتخمين، ولا هامش للتخرص والترخص، والتقدير الجُزاف، وإنما هو ميزان كميزان الذهب، وقد أدركنا هذا كما رواه أسلافنا من طلابه، فجزاه الله خيرًا كما جزى عادلاً عن عدله، ومنصفًا عن إنصافه. تولى د. المفدى رئاسة قسم النحو والصرف وفقه اللغة في جامعة الإمام محمد بن سعود مدة طويلة، من عام 1401 حتى 1415هـ (أفادني بذلك أستاذنا د. تركي العتيبي، وهو يعد الآن كتابًا عنه) فكان زملاؤنا المتقدمون يروون في دقته وحرصه قصصًا ومواقف، من حيث قبول موضوع الرسالة، وخطتها، وسعة المادة ومناسبتها، وفي حجمها بعد الانتهاء! تلك الدقة والشدة أثر من آثار أمانته، ونتيجة من نتائج خلقه المطبوع عليها.
ويبدو أن هذا الحزم لم يقتصر على شأنه العلمي والإداري، بل تعداه إلى اختياره الفقهي؛ فقد روى لي زميلنا د. خالد الجمعة ما يدل على أن له مشاركة في الفقه واختيارًا، موافقًا لجبلته المشرئبَّة للكمال والإتقان، يقول: «أمسكت بيده ليلةً بعد انتهاء محاضرته، واتجهنا إلى المصلى، فأدركنا الإمام راكعًا في صلاة المغرب، فلما سلمنا قام الشيخ وقضى الركعة التي أدركناها، فلما سلم ذكرت له أننا أدركنا الركعة، فقال: «أنا لا أعتد بالركعة التي لم أقرأ فيها الفاتحة»».
وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رُوي عن عدد من الصحابة، وهو رأي البخاري (انظر: القراءة خلف الإمام ص 141 وما بعدها)، وكان شيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله - يميل إليه في حال مخصوصة، دون أن يفتي به، فقد كان يقول فيمن كان حاضرًا الجماعة، وتعمَّد التأخر عن الالتحاق بالإمام حتى فاتته قراءة الفاتحة، إنه يخشى ألا تصح ركعته تلك.
واستأذنتُ لعارضٍ عن حضور المحاضرة، وأردت التعويض عنها بحضور مقابِلتها مع زميلاتنا الطالبات، حيث أحضر معه وقت إلقائها، فقال لي: «ربما لا يكون ثَم مكان لك»، فلم أفهم التعريض، وقلت له: «لن نعدم مكانًا»، فرأى ألا مناص من التصريح، فقال: «قد يكون سماع أصوات النساء ومناقشاتهن غير مناسب»! فحضرت المحاضرة مع زملائي عبر الجوال.
ومع هذا الجد والحزم، والدقة والضبط الذي اتصف به أستاذنا، فقد كان لطيف المعشر، كريم الخلق، ولا تخلو محاضرته من طرفة عابرة، تبدد جمود النحو المزعوم، وصعوبته المتخيَّلة. دخلت مرة القاعة بعده مستأذنًا، فلما أذن بادرني بالسؤال: هل كان والدك زقرتيًّا؟ فأجبته مستملحًا السؤال، ومستظرفًا لغته: لم يكن زقرتيًّا، ولم يُسَمِّني على من تظنّ!
وفي أثناء قراءتنا لشرح التسهيل مرَّ الشاهد النحوي المعروف: لن ينفعَ الجاريةَ الخِضابُ ولا الوشاحانِ ولا الجِلبابُ
مِن دونِ أَن يصطفق الأركابُ
ويقعدَ...
فقال الشيخ: استحى المحقق أو استحيت أنت!
ظل أستاذنا المفدى متواصلاً مع العلم وطلابه، لم يثنه مع فقد البصر الذي صحبه منذ السادسة من عمره، أن تقدم به السن؛ فواصل بعد التقاعد عام 1417هـ بالتعاقد، فلما لم يرغب تجديده عام 1428هـ بقي متواصلاً مع طلابه الذين يشرف عليهم، وتفرغ بعد ذلك لأعماله العلمية الأخرى. وكم يبهرني حين أتصل به من بعد أُمَّة، فيذكرُني -على تقصيري -، ويذكِّرني بعنوان رسالتي، ويسألني عن زملائي، هذا، وأنا لم أحظَ بإشرافه، أو أشرف بمناقشته، وإنما أنا طالب من بين مئات الطلاب الذين مروا به. حفظه الله، وبارك في عمره وعلمه.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم