د. محمد عبدالله العوين
صحيح أنها لم تكن عزلة اختيارية، وأن الوضع الصحي الحرج الذي يمر به العالم كله ومن ضمنه بلادنا - حماها الله - هو الذي ألزمني وغيري إلى اللجوء إلى المنزل والابتعاد عن المناسبات والزيارات والمطاعم والمقاهي والدوريات الأسبوعية المعتادة مع الأقرباء والأصدقاء، تقطعت صِلاتنا مع بعضنا البعض، وحتى صلاة الجمعة التي تجمعني مع الأولاد في سيارة واحدة للذهاب إلى الجامع، وحتى زيارة كبار وكبيرات السن من العائلة، أصبح الهاتف أداة الوصل بدل القبل على الرأس واليدين.
يا له من زمن منقلب على نفسه، وكأنه غير زماننا المعتاد الذي ألفناه وألفنا، أو كأننا لسنا البشر الذين كنا نعيشه ونتفاعل مع كل تفاصيله المبهجة الممتعة، لم نكن نعي أننا كنا نعيش أجمل المتع وأروعها وأكثرها تأثيرًا في النفس بزياراتنا ومناسباتنا وأفراحنا وتواصلنا وأعمالنا وتسوقنا وسفرنا واستقبالنا وتوديعنا وقيامنا بما يجب أن نقوم به من واجبات ومسؤوليات، لم نكن ندرك أن العمل كان متعة راقية وتسلية جميلة وأن الذهاب إليه والعودة منه ترويح عن النفس وتغيير جو وابتهاج بالطريق وبما يعرض فيه وما يمر عليه وما يدور في النفس حين عبوره من خواطر وهواجس وأحاديث ومكالمات وغناء وطرب، كان العمل ومتاعبه متعة أي متعة؛ ذلك الذي كان بعضنا يتمنى إجازة اضطرارية قصيرة منه أو إجازة شهر سنوية للانعتاق من ضغوطه والهروب من التزاماته، اليوم يتمنى الكثيرون العودة إلى عملهم محتملين أعباءه وزحام طريقه والعودة منه، يتمنون ذلك الذي حرموا من الذهاب إليه، يتمنون أيام ما قبل (كورونا) تعود، يتمنون التسوق في المولات والتريض في الكورنيشات والتسكع على الأرصفة والاسترخاء على الكنبات المريحة في أبهاء الفنادق، والتنقل بين المقاهي وتدليع النفس في الطلبات بين المطاعم!
كانت الحياة جميلة عظيمة غنية معطية كريمة وسخية جدًا ونحن لم نكن ندرك كل ذلك النعيم وتلك المباهج التي كنا نتمتع بها!
نحن الآن في زمن كورونا الذي أوجب على الجميع حظر التجول، وفرض على البشر أحكامًا عرفية لازمة التنفيذ من دون إدانة ولا محاضر قبض ولا محاكم، حكم عليهم عدو خفي لا يرى بالعين المجردة بسجن أنفسهم بين حيطان بيوتهم الأربعة أسابيع أو أشهرا، الله أعلم متى يتم الإفراج عنهم ليعودوا إلى حياتهم الجميلة الأولى السابقة التي كان البعض يراها جحيمًا وعذابًا، بؤسًا وحرمانًا، وكأن لسان شاعرنا العظيم إيليا أبي ماضي يخاطب هؤلاء؛ فيقول:
أيها الشاكي وما بك داء
كيف تغدو إذا غدوت عليلا
إن شر الجناة في الأرض نفس
تتوقى قبل الرحيل الرحيلا
وترى الشوك في الورود
وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظن الحياة عبئا ثقيلا
الآن فقط؛ نتمنى أن يعود زمن ما قبل كورونا، ذلك الزمن الذي كان بعضنا يهجوه ويمقته وينشد فيه كل قصائد التذمر والشكوى.
وسيعود قريبًا بإذن الله.