د. خيرية السقاف
لأول مرة تهدأ المدن في هذا الوطن من ضجيجهم..
تخلو من أقدامهم..
تفرغ فضاءاتها من أنفاسهم..
ولعلها تنقى, ولعلها تنظف, ولعلها تتخلَّص من شوائبها..
ترى لو أن لها ألسنة بصوت أناسها المندسين في نزُلهم ماذا تقول؟!..
بلى إنها تقول...
مصابيحها تضيء, أبنيتها قائمة, مساحاتها تكشف عن ملامحها, نمنمات تفاصيلها تبرز فوق أديمها..
فسيفسائها نافت أشكالاً لصيقة بالأرواح تُنمي بجمال ينطق, وأبهة تخفق,
يتقطر على حوافها عرق البانين, تحلّق في آمادها مخيلات المعماريين, يتكلم في نهوضها تنفيذ المهندسين..
حتى خطى الماشين يتكلم تراب مروا به, وزفت طرقاتها برائحة بخورهم يعبق بهم, وصدى سعادتهم يبوح بأسرارهم, وندى دموعهم يوشي بآلامهم..
جغرافيتها ناطقة بتلك الأشذاء العامرة بها ذائقات المبدعين, والمفكرين, وفلاسفة الحداة مع صفوف القوافل وهي تجوب اتجاهاتها, وترسم بحوافرها مسيرة الوقت وهو يدور بعقربي الساعة على مدار الساعة, في سِفْرِ أبهة تاريخها ماضيا, وسندس واقعها حاضراً, راوياً يهمي بأهازيج صمتها, ونقاء صوتها, ونور طموحها, ونار عزمها, وهي الآن خالية, هادئة, صامتة في ليلها الوضيء, وأمنياتها الشاسعة..
ليس غير جنودها يجوبون بحلمهم, يحرسون بوعيهم, يسهرون بحدبهم..
لا غير الحب ينسج كل مفصل في بواباتها, ويسقي كل ذرة تراب في ثراها,
ويحتوي كل حفيف شجرة في غرسها..
الأبواب فيها موصدة إلا باب رحمة الله يحدوها بالسلامة, والأمان من مغبات الداء,
وسطوة الوباء..
وإلا أدعية القلوب المطمئنة..
وأبواب المصحات ملاذ للآهة, ومأوى للطمأنينة..