د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في العصور الوسطى «الأوربيّة» ساد التفكيرُ الغيبيُّ لما يفوقُ قاماتِ المفسرين وقُدُراتهم؛ وسُوئلَ المجترئون على السياق التبريريِّ بما ألجم سواهم، وهو ما دعا المُستريبين بالتفسير الكنسيِّ إلى الخروج من صناديق الإغلاق إلى آفاق الإشراق، وأيقن المستنيرون أن للعقلِ مدارَه كما للنقل مسارُه، واليقين لا يجيءُ بإملاءٍ ولا استعلاء، وكان القرنُ «الثامنَ عشرَ» مبتدأَ عصرِ التنوير بإرهاصٍ سبق وتجديدٍ لحق.
** لم يفهموا سرَّ انتثارِ النجوم ليلًا واختفائِها نهارًا إلا بوجودها في حقيبةٍ تُخرَج ُ منها مساءً وتُستعادُ فجرًا، وأيقنوا أن الأرضَ مركزُ الكون فآذَوا من برهن أنها الشمس، وبرروا الأمراض الوبائية بالنأي عن الكنيسة فتقاطروا عليها ليزداد المصابون فاقتنعوا أن السبب وجودُ مندسِّين غيرِ صادقين وبدأوا في تصفيتهم بدعوى تطهير المجتمع المؤمن من المخالفين، وأدى الحصارُ الذهنيُّ والنفسيُّ والجسديُّ إلى كسر قيودِ الاستبداد الدينيِّ وتجفيف سلطوية الكنيسة.
** تهمَّشت النصرانية والسببُ سدنتُها، وفي المقابل وعلى مدى التأريخ ارتقى الإسلام فوق هذه الثنائية الدينية الحياتية، وسقط مفهوم «رجال الدين» من الفكر الإسلامي بالرغم من تعالي أصواتٍ وربما أسواطٍ لتجعلَ لبعضٍ سبيلًا على بعض، وظلت صراعات الأدلجة المُفضية إلى التحزبات والانشقاقات، وجدليات الدين والعلمنة والصحوة واللبرلة محصورةً في لغة المنتمين والمرتمين من المسلمين، ولا شأن للإسلام بهم ولو دعَوا وادَّعَوا.
** وبالرغم من التوحد الظاهريِّ بين المتنافرين خلال أزمة «وباء كورونا» فإن ما يلي الخروجَ منها لن يماثل ما قبل الدخول فيها، كما أن القضية لن تنتهي بمرضٍ وشفاءٍ، بل بتبدلاتٍ ثقافيةٍ تدريجيةٍ تتخطى المدارات الغيبيةَ الموغلةَ في تفسير الواقعِ بنص وتيسيره بنداء إلى وعي علميَّة الإسلام وعدم إيقافه عند مُعبرٍ ومفسرٍ وواعظٍ ومؤثر؛ فالطبيبُ والكيميائيُّ والصيدليُّ والاقتصاديُّ وذوو القرار أسهموا بإرادة العليِّ القويِّ في إدارة الأزمة وتوفير الغذاء ولجم الوباء واستعادة الهدوء وسيرورة الحياة، وهذه مفاهيمُ مهمةٌ لمن يودُّ مواءمة العقل والنقل والدعاء والدواء.
** أما في دوائر الحوار فيُوظفُ السببُ الغائبُ لتفسير بعض الظواهر والاستدلال ببعض المظاهر، وفيه جانبُ حقٍ، وتغيب عنه جوانبُ حقيقة؛ ففي الأزمنة الفاضلةِ عمَّت فتنٌ وأمراضٌ وحروبٌ وخُطوبٌ وساد ويسودُ من ليسوا فضلاءَ ولا أتقياء، وبمنطق التأويل الغيبيِّ لم يكن ممكنًا ليهود أن يحتلوا الأقصى بما تعنيه دلالاتُه، وليس مبرَّرًا أن يتهيأْ لنظامٍ طائفيٍّ بائسٍ قيادةٌ وريادة، ولكن الكون لا يسيرُ بمقاييسِ البشر المجردة.
** نحن بحاجةٍ إلى التحليل الموضوعي والنقد العقلي لما يحيط بنا من أحداثٍ تنطلقُ من سنن الله الكونية، والاتجاه إلى القراءة الواعية غير المنساقة خلف التفسيرات المخفية التي لا تحتاج إلى أكثرَ من تصفح كتابٍ أو سماعِ محاضرةٍ أو التقاط رواية عبر وسيطٍ رقميٍّ لاهث، وبسببها نشأ الحراكُ المضادُّ المنصرفُ عن العلم والعلماء إلى الحكَّائين والأوصياء.
** العلمُ والعقلُ توأمان.