د. نورة بنت زيد الرشود
إنَّ تشريع القوانين العادلة القابلة للتطبيق مهمٌّ لاستقرار المجتمعات البشريَّة؛ لذلك فإن كثيرًا من مشروعات الأنظمة غالبًا ما تنتهي إلى إنفاذها حاملة في طيَّاتها أحكامًا سارية، وأهمّ مبدأ في سنِّ تلك القوانين هو عدم جواز مُخالفة القاعدة الأدنى في المرتبة للقاعدة الأعلى، فلا يجوز للتَّشريع العادي مخالفة التَّشريع الأساسي ولا يجوز للتَّشريع الفرعي أن يخالف التَّشريع العادي، ولا يجوز لها جميعها أن تُخالف التَّشريع الإلهي. كما أن النَّص التَّشريعي لا بد أن يكون سليمًا واضحًا مُتَّسقًا مع الأحكام، مُحرَّرًا بعنايةٍ ودقَّة من قِبل لجانٍ متعدِّدة ذات خبرةٍ ومهارة في إعداد تلك النُّصوص.
والسُّلطة التَّنظيمية في المملكة العربية السعودية تتمثَّل في مجلس الوزراء الذي أُعطي بموجب النِّظام سُلطة سَن الأنظمة واللوائح وإصدارها الذي يتولى رئاسته خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-.
ويَسبق إصدار أي نظام قبل وصوله إلى مرحلة نَفاذه مراحل مُتعددة بدءًا من (مرحلة الاقتراح) الذي حدَّد النِّظام صاحب الحق فيه بنص المادة 22 من نظام مجلس الوزراء «أحقية الوزير باقتراح مشروع نظام أو لائحة تتعلَّق بأعمال وزارته»، وكذلك أحقية مجلس الشورى بموجب المادة 23 من نظامه. يَليها (مرحلة التَّصويت) بعد عرض الاقتراح على مجلس الوزراء، ثمَّ (مرحلة المُصادقة) بتوقيع الملك على قرار المجلس، ثمَّ (مرحلة الإصدار) و(مرحلة النَّشر).
هذه المراحل التي تكون سابقة لمرحلة العمل بالقانون إنَّما هي في الظُّروف العاديَّة والأحوال المُستقرَّة، ولكنَّها تختلف عن تلك التي تكون في الظُّروف الاستثنائية تلك الظروف التي تَعني وجود حالة طارئة تنطوي على خطرٍ جسيم يُهدِّد كِيان الدولة أو يَمسُّ سلامتها أو أَمنها، بحيث تَستلزم التَّصرُّف السَّريع من جانب السُّلطة التَّنفيذيَّة، إِذ هو الوسيلة الوحيدة لدفع الخَطر سواء كان خطرًا خارجيًا كالحرب مثلاً أو خطرًا داخليًا كالذي يحدث وقت الكوارث والنَّكبات وانتشار الأوبئة، ولا يُلتفت في ذلك إلى كون هذا التَّصرف قد خالف تلك القواعد القانونيَّة أم لا، على اعتبار أنَّها (حالة ضرورة) وعلى أساسها تكون شرعيَّة ذلك التَّصرف.
وقد عَرَف الفقه الإسلامي نظريَّة الضَّرورة؛ بل عرَّفها الفقهاء بأنها «خوف الهلاك على النَّفس والمال سواء كان هذا الخوف مُتيقنًا أو ظنًا راجحًا لأسباب معقولة» بناء على قاعدتين شرعيتين:
الأولى - قاعدة (المشقَّة تجلبُ التَّيسير)، والثَّانية - قاعدة (لا ضَرر ولا ضِرار)، فالمشقَّة التي تخرجُ عن المُعتاد تجلبُ التيَّسير (وما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج) وعليه فالضَّرورات تبيحُ المحظورات وتُقدَّر الضَّرورة بقدَرها (فمن اضطُرَّ في مَخمصةٍ غير مُتجانفٍ لإثم فإن الله غفورٌ رحيم) ومنه إباحة شرب الخمر لإزالة العطش، وجواز إتلاف مال الغير بإلقاء بعض حمولة السَّفينة إذا أشرفت على الهَلاك، ومنه تشريع الرُّخص لحماية النَّفس فيُعذَر في ترك الجُمعة والجَماعة الخائف على ضيَاع نفسه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كذلك أكل الميتة والدَّم ولحم الخنزير يحرم أكلها عند الغِنى عنها، و»يَجب أكلُها بالضَّرورة» عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء. قال مسروق: «من اضطُرّ فلم يأكل حتى مات دخل النَّار -كل هذا من أجل حفظ النَّفس- قال: وذلك لأنه أعان على نفسه - يعني على إزهاقها- بترك ما يَقدر عليه من الأكل المُباح له في هذه الحال، فصار بمنزلة من قَتل نفسه».
يقول الإمام الشاطبي: «اتفقت الأمَّة؛َّ بل سائر الملل على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضَّروريات الخمس، وهي: «الدِّين، والنّفس، والنَّسل، والمال، والعقل». والمحافظة على هذه الضَّرورات يباح معها مُخالفة القواعد الشَّرعية بضوابطها، وتلك هي (نظريَّة الضَّرورة) التي يُقابلها نظريَّة (الظُّروف الطَّارئة) في القانون الفرنسي، و(نظريَّة الكوارث المُفاجئة) في القانون الأمريكي، و(نظريَّة استحالة تنفيذ الالتزام) في القانون الإنجليزي.
فالفقه الفرنسي نجده يَصبغ نظريَّة الضَّرورة بالصِّبغة السِّياسية إِذ الإجراءات غير المَشروعة التي تضطرُّ الدَّولة اتخاذها بحكم الظُّروف الطَّارئة يغطِّيها رداء الشَّرعية المُستنِد إلى أحكام الضَّرورة، لكنَّها لا ترفع المسؤوليَّة عن العمل الإداري؛ بل يَظل العمل مخالفًا للقانون ولا يُعفى الموظَّفون من المسؤوليَّة المدنيَّة أو الجنائيَّة أو الإدارية إلا أن يُصحِّح البرلمان ذلك بتشريعٍ منه.
أما الإنجليز فنَهَجوا على المحافظة على القواعد الدستوريَّة العُليا ولا يُعترف بحقِّ الحكومة في الخروج على التَّشريعات ولو في أوقات الأزمات وأحوال الضَّرورة واعتبروا مبدأ سِيادة القانون مبدأ مطلقًا لا استثناء منه في جميع الظُّروف.
لكن الألمان اعترفوا بنظريَّة الضَّرورة كنظريَّة قانونيَّة تُتيح للدَّولة الخُروج عن الدُّستور والقوانين الأخرى في وقت الأزمات؛ إِذ هي صاحبة السِّيادة وهي تملك السُّلطة التَّقديرية في التَّفريق بين مصالحها الأساسية والقانونيَّة.
وقد تفوَّقت (نظريَّة الضَّرورة) في الفقه الإسلامي على مثيلاتها في القوانين الأخرى إِذ أثبتت أنَّها أكثر جزمًا وشُمولاً، كما يذكر الفقيه الفرنسي (لابيير) حيث قال: «تُعتبر نظريَّة الضَّرورة في الفقه الإسلامي أشَدُّ ما تكون جَزمًا وشمولاً عن فكرةٍ يوجد أساسها في القانون الدَّولي العام...».
وعليه فإنه يستلزم في حالات الضرورة اتخاذ الَّتدابير الوقائية وقتيَّة النُّصوص لمواجهة الأزمات سعيًا للحفاظ على تلك الضَّرورات الخمس وتحقيقًا لسلامة النَّاس وأَمنهم واستقرارهم، ومن ذلك: وضع قيود على حُريَّة الأشخاص في الاجتماع والانتقال والمرور في أماكن وأوقات معيَّنة - وكذلك تحديد مواعيد فتح المَحلات العامَّة وإغلاقها - إخلاء بعض المناطق أو عزلها - تنظيم وسائل النَّقل وحصر المواصلات وتحديدها - مراقبة الرَّسائل أيَّا كان نوعها ومراقبة الصُّحف والمطبوعات وكافَّة وسائل التَّعبير والنَّشر - سّحب تراخيص الأسلحة والذَّخائر وكافَّة الموادّ القابلة للانفجار.
وتقوم الهيئات العسكرية بتنفيذ الأوامر الصادرة من الجهات العليا وتوقيع العقوبة كجزاء للمخالفين لتلك الأوامر، وذلك وفق منهجٍ قانوني مُنظَّم يعمل على التَّنظيم والتَّقنين والتَّنسيق في حالات الطوارئ وحالات الاستعجال بما يوفِّق بين الضَّرورة واحترام الحريَّات من جهة، وحماية النِّظام العام والأمن والاستقرار من جهة أخرى.
** **
- كلية الدراسات القضائية والأنظمة بجامعة أم القرى