د.فوزية أبو خالد
لا أدري إن كان بفعل «الملاذ البيتي»، بعيدًا عن الصخب العام تتكشف لنا محاسن العزلة أو أنه بسبب الاستشفاء من الخوف المصيري تتبدى لنا نعمة التفكير في الحياة إلا أنني استطيع ملاحظة ما دخل على علاقتي بالقراءة والكتابة والأطفال والدعاء والماء والحياة نفسها من أبعاد جديدة. فبعد ما كانت القراءة عادة واطلاعًا صارت القراءة نوافذ لا تفتح على الخارج فقط، بل تفتح على مغاليق الذات لنتعرف من جديد ونتعلم ما كنا نظن أننا ضليعون به. فهناك خفقة في الفؤاد لم تكن تدري من قبل أنها من حروف السلم الموسيقي لدقات قلبك، وهناك مفردات جديدة في اللغة والحياة معًا لم تكن تظن أن لا علم لك بها كما أن هناك للكلمات أفعالاً وقدرات حركية لم تكن تدري بوجودها قبل الوقوف وجهًا لوجه أمام جبروت الكلمة في مواجهة جبروت الموت وذروة اللا حول وقمة اضمحلال القوة. فالدعاء كلمة قد تمحو أقدارًا معقوفة وتكتب أقدارًا ممشوقة، والقانون كلمة قد تغير أقدارًا وحشية بأقدار أكثر إنسانية، والخطاب السياسي أو الإعلامي بالمعنى المكتوب أو الشفوي للكلمة قد يضيع أمة أو قد يضعها على بوصلة الصواب. فالفرق بين الوباء والجائحة ليس فارقًا بين السعة والضيق أو بين التشخيص الطبي وبين التأويل السياسي ولكنه فارق لغوي أيضًا في التعبير المعرفي عن الذاتي والاجتماعي وعن الوعي الفردي والجماعي باستسهال الموت أو باستصعاب الحياة.
ونفس الشيء ممكن أن أقوله عن علاقتي بالكتابة وبالأطفال وبجسدي وبالماء. فبعد أن كانت على سبيل المثال علاقتي بجسدي علاقة وظيفية للعبور نحو أشواقي الشخصية والعامة بدأت تتجلى لي بشكل مفاجئ علاقة معقدة بجسدي تتأرجح بين الجهل والخجل والحنق والحنان والجزع والحزن والضعف والقوة والاستقواء والسحر، فأرى فيه تلك الجيوب والممخابئ والصمان والمغاور والسهول والصخور والبحار التي لم تطأها قدمي من قبل ولم أكن لأخال وجودها قبل أن يبدأ التهديد العالمي لأجسادنا الهشة بجائحة الفيروس التاجي لا سمح الله. وهذا التكشف عن علاقة مغمورة ومجهولة بيني وبين جسدي في ظل هذه الجائحة الكونية يعد أمرًا مفاجئًا لإِنسانة عاشت وتعايشت منذ طفولتها المبكرة وإلى الآن مع تحديات جسدية عديدة، ولكنه، في محاولة متعجلة للتأمل، قد يكون بسبب أن هذا الفيروس التاجي ينزع عن الجسد في مواجهته دفعة واحدة كل ما يربيه الإنسان على روحه من ريش التستر على حقيقة الموت الخالدة بالفرار اليومي إلى الحياة. ولكن مع ذلك ليس لكائن من كان في هذه اللحظة الحرجة إلا الفرار من الموت الذي أمامنا برمق الأمل ورحيق الدعاء و»مرة» العزلة «وشيحها وصبرها».
كنتُ دائمًا قبل هذا التاريخ الذي صار علينا غسل اليدين في اليوم عشرات المرات لمقاومة احتمال تلقي الضربة القاضية بالفيروس التاجي على علاقة حميمة بالماء فعادة ما أتداوى بالماء إذا عصتني شياطين الشعر وعادة ما أعالج جروحي الغائرة والطافحة معًا بالماء، وعادة ما أعيد الشباب المتخيل والمنشود إلى وجهي وحبري برشة ماء كلما غدر الوقت بي وشدني من ضفائري الفاحمة الطويلة القديمة إلى مواقع متقدمة من العمر. ولكم أن تتخيلوا اليوم أي معنى صار للماء عندي بعد ما أضافته هذه الجائحة البشرية الموجعة على علاقتي بالماء من معاني إعطاء كل فرد منا وكل شعب وكل أرض بمعنى الكلمة عمرًا جديدًا وفرصة ثانية للعمران وحياة غير تلك الحياة التي خرجت من معطف قواها العظمى والهشة ومن سلطان طغاتها وخضوع مستضعفيها تلك الفيروسات القاتلة من الحروب والتناحر والتطاحن إلى الطاعون والجدري والسارس والإيبولا والفيروس التاجي.
***
ولا أنسى أن أختم هذا الجزء من مقالي بكلمة حق في حق مجهودات المملكة العربية السعودية الجميلة والمؤثرة في مجال مقاومة هذه الجائحة بجدية واجتهاد وفعالية وروح استباقية على مستوى داخلي بهذا الاستعداد الذي سبق دولاً أجنبية متقدمة في دقته وقوته وعلى مستوى عالمي في المبادرة إلى دعوة قمة العشرين لعقد مؤتمر دولي مبكر على المنصة الافتراضية لبحث سبل التعاون على مستوى رسمي ومدني طبيًا واقتصاديًا بهدف مواجهة ومقاومة هذه الكارثة الوبائية المصيرية المشتركة.