د. حسن بن فهد الهويمل
هناك ثقافة، وهناك تخصص. وما أكثر الذين زهدوا بتخصصاتهم، واستجابوا لمغريات الثقافة، والإعلام، يراوحون بينهما، أو ينقطعون عن تخصصاتهم من أجل الثقافة، لمغريات مادية، أو شهرة إعلامية.
وعلى كل الأحوال، فالمفكر المعرفي المُحْترمِ لنفسه، ولِقَارِئه يسعى لتثبيت الأقدام، بالتأصيل المعرفي.
فالتسيب الإنشائي، لا يضيف شيئاً ذا بال، بل يقف بالمتلقي على جرف هار، وفوق أرض هشَّة، تزل فوقها الأقدام بعد ثبوتها، وتضل الأفهام بعد إدراكها.
النوازل السياسية، والأحداث الموجعة المُرْجِفة، استدرجت أقلاماً سيَّالة، وألسنة حداداً، وغلَّقت الأبواب على عدد من المفكرين، كما (امرأة العزيز) وأغرتهم بجواذبها.
فمنهم من حاول التأصيل المعرفي.
ومنهم من ركض في فجاجها، يخطف كلمة من هنا، وكلمة من هناك، يناقض نفسه، ويضل غيره.
وليس أدل على التِّيه من تواصل الانهيارات: الحسيَّة، والمعنوية لأمة جنوا عليها، وما جنت على أحد. وما من أحد أصاب كبد الحقيقة، وأيقظ الأمة من سباتها العميق.
إذ لو حصل شيء من ذلك، لحُقنت الدماء، ورفعت الذلة، والمسكنة، وأُقيم العدل، وأمن الناس على أنفسهم، وأموالهم، وحرثهم، ونسلهم.
لقد حلَّت الفوضى، والخوف، والقتل، والتشرّد. ومعسول القول يبخره الواقع الموجع.
ولما يزل المتنفِّذُون في غيهم يعمهون، يقولون منكراً من القول، وزوراً، مجرد كلمات إنشائية، فارغة، تتخبط في دياجي الظلمات.
(السياسة فن الممكن) هذه قضية مسلَّمة، وليس من السهل تعاطيها من خلال الظاهرة الصوتية، ولا من خلال الجمال البلاغي.
لا بد من الضربات المفصلية التي تصيب كبد الحقائق، وتفري فَرْي الخبير.
لكل (حدث) مفاتيحه، ولكل (لعبة) قواعدها. ومن جهل شيئاً من ذلك أصبح (ضغثاً على إبَّالة)، لا يزيد قومه إلا خبالا.
قلت من قبل إنَّ أولَ حدثٍ شد انتباهي لِمُغامرات السياسة، اغتيال (جون كندي) عام 1963م، وإحكام العملية بشكل مذهل، جعلت الشعب الأمريكي في حالة تساؤلات شاردة.
كنت إذ ذاك شاباً مثالياً، يُصَدِّق كلَّ قول، ويتوقد حماساً: للحرية، والعدل، والمساواة. وهي الشعار الجذَّاب الذي رفعه (الماسونيون) وانجرف به عمالقة الفكر، والتقطه الانقلابيون العسكريون عباءة يغطون بها سوءاتهم، ويمرِّرون بها لعبهم المُصْمِية.
ولمَّا تكشَّفت الأمور لم أصدق قولا، بل مضيت أبحث عن مصدر معرفي، لا تأخذه بالحق لومة لائم، فوجدت ثلاثة مصادر مترعة بالتأصيل، والتقعيد، والاعتراف، والتجارب، مع ما فيها من مغالطات:
- الذين كتبوا عن اللعبة، وقواعدها.
- الذين كتبوا سيرهم، واعترفوا بمغامراتهم، ووقوعهم في حبائل اللعب الكبرى.
- الذين تعقبوا الأحداث، وتناولوها بحياديه إيجابية، وموضوعية متوازنة، ورصدوها رصداً تاريخياً دون انحياز.
لا أقول بأنني ارتويتُ، ولا وعيت كما يجب، ولكنني -على الأقل- أضع السياسة، وأساطينها حيث تضعهم أعمالهم.
هناك عظماء يبهرون، ولكنهم غير ناصحين، ولا صادقين، يخدمون المصالح، ولا ينشدون الصَّالح، أذكياء، غير أزكياء. صنعوا مفترقات الطرق، وأحاطوها بالزور، والبهتان، والتضليل، حتى لكأن الواقف أمام خيارات متوازنة تتجاذبه من كل جوانبه.
بقيت كأي شاب ألهته الخطابات الرنانة، كـ(بني تَغْلبٍ) من زعماء (كارزميين)، يُلْهِبون العواطف. قرأت عن (الأحزاب المصرية) التي باركها الاستعمار زمن الملكية المتشبثة بـ(الدستورية) المزيَّفة.
لقد كانت تلك الأحزاب ألعوبة بين (القصر الملكي)، و(الثكنة الاستعمارية).
هناك وطنيون، ولكن صوتهم يضيع في ضجيج الزيف، والتزلّف، والمصالح الذاتية، والصراع على السلطة.
وقرأت في سير الزعماء المصريين بالذات: الحزبيين، والعسكريين، المحاربين، والمفاوضين، والمفكرين غير الحزبيين في (العهد الملكي).
ثم تعاقبت من بعد ذلك المذكرات التي تحكي النكسات العسكرية، والسياسية. وانكشف الرغاء الإعلامي المزيِّف للوعي.
كنت قد قرأت (عودة الوعي)، و(الوعي المفقود) الذي أثار زوابع في الأوساط الإعلامية. وكان الكتابان يمدان بسبب إلى كتاب سابق (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، الذي امتدحه (جمال عبدالناصر).
والمذكرات على العموم مصدر من مصادر التاريخ، وبخاصة عندما تكون حزبية.
لقد صدرت المذكرات لزعماء (الحزب الوطني)، ومذكرات زعماء ( حزب الوفد)، ومذكرات زعماء (حزب الأحرار)، ومذكرات ( حزب الإخوان)، ومذكرات (مصر القناة)، وفيها تناقضات صارخة.
وتلتها المذكرات السياسية، وبخاصة للزعماء الذين أداروا دفة السياسة كـ(السادات)، و(البغدادي) وغيرهم.
ودعك من كتب الاعترافات القادحة بالمروءة، ودعك من مذكرات العلماء، والمفكرين، والعمالقة الذين لا يمتون للسياسة بصلة.
هؤلاء، ومن كتب عن اللعب، وقواعدها، يشكِّلون تأصيلاً للسياسة، وتعميقاً للتصوّر.
الإعلام مجرداً من معارف رموز السياسة. يشكِّل وعياً مزيّفاً، لا يدرك الأحداث بأبعادها، ولا يتصوّر الواقع بتشكله. إنه الوعي المنقوص، بل هو الوعي المفقود.
للتأصيل السياسي لا بد من قراءة صنَّاع السياسة، ومنفذيها عبر سيرهم، أو آرائهم المدوَّنة.
وتبقى السياسة رغم كل الاحتياطات، والتحفظات مزلة أقدام، ومضلة أفهام. وهي في النهاية شر لا بد منه.