د. علي بن فايز الجحني
ومن جميل ما أوصى به شيخ الإسلام ابن تيمية تلميذه ابن القيم قوله: «لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه».
حقيقة إنه من الأهمية ألا يكون المثقف كمن أراد أن يبني قصرًا فيهدم مصرًا، وهذا يحتم عليه في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية أن يكون واعيًا بأحداث عصره، وبالأحوال والظروف كافة، لاسيما أنه عند التمعن في مادة الثقافة ومشتقاتها في اللغة نجدها تدل فيما تدل عليه على الحذق والتهذيب والتشذيب، والمثاقفة، والفطنة، والتمكن، وتقويم المعوج من الأشياء، يقال: ثقف الرمح، إذا قومه وسواه وهو من يمتلك القدرة على العطاء، وتقويم المعوج، بحيث يضحي بوقته وجهده استشعارًا للأمانة ودوره التاريخي، ومسؤوليته نحو مجتمعه، انطلاقًا من أهمية الثقافة نفسها وحاجة المجتمع إليها، وأهمية المثقف نفسه، وما اكتسبه من صنوف المعرفة النَظريّة والخبرة العمليّة طوال عمره، إذ إنه لا يقتصر دوره على الكتابة أو الاستقاء الثقافي، بل يجب أن يكون له دور ريادي في المجتمع، ومن أهم وظائف المثقف في مجال تعزيز الأمن الفكري التي يمكن أن يضطلع بها في إطار إسهاماته المجتمعية ما يلي:
أ) توعية أبناء المجتمع بالمحافظة على الوحدة الوطنية وتعزيز الأمن الفكري وصونهما.
ب) توعية أبناء المجتمع بأهمية المحافظة على الثوابت والقيم، والاعتزاز بالهوية والمنجزات الوطنية.
ج) التفاعل مع قضايا الناس وابتكار حلول للتعامل معها.
د) - تكوين العقل النقدي البناء في المجتمع الذي يعزز الحصانة الذاتية ويقوي الأمن الفكري لدى أفراد المجتمع.
هـ) - ترشيد الحريات والاستفادة من التجارب الأخرى.
6-) الإسهام في نشر الثقافة الوطنية والقانونية وقيم الأمن في المجتمع.
إن التصدي لكل الآفات والأمراض المجتمعية والمهددات التي تسيء للثقافة والأمن والتنمية والسلوك الحضاري مطلب، لكن الإشكالية هنا تكمن في وجود عناصر من المثقفين العرب أو من يحسبون على المثقفين في العالم العربي، يشكلون خطرًا على الوعي الوطني، لانصرافهم عن الرسالة الأسمى إلى مشروعات مشبوهة؛ وتيارات هدامة للأمن والتنمية.
استتباب الأمن
لا شك أنه لا يمكن للعنصر البشري أن يعيش هانئًا مطمئنًا دون الأمن، ومنزلة الأمن بلغت مرتبة الضرورات، وبحصوله يظفر الإنسان بمتعة الحياة والهدوء والاستقرار، وبالتنمية، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}(سورة قريش:3-4) وقال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(سورة الأنعام: 82) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (أخرجه النسائي) وقوله عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» وقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»(رواه البخاري)، وتعد مسؤولية المثقف التنويرية واسعة المدى في هذا الإطار: وطنيًّا وتربويًّا ووقائيًّا على اعتبار أن حماية أبناء المجتمع من الانحراف والتطرف والجفاء وجميع الاختلالات مسؤولية الثقافة والعلم والفكر.
الوسائل الوقائية
إن محور التنمية واستقرار المجتمع أبناؤه من جميع الشرائح، والمثقفون في الصدارة، وعليهم عبء أكثر من غيرهم في ترسيخ الوقاية والتحصين الذاتي لأبناء المجتمع، وإظهار الاعتدال والتسامح ووسطية الإسلام، والاقتراب من هموم شرائح المجتمع أكثر فأكثر تثقيفًا وتوجيهًا وقدوة حسنة.
قال ذات مرَّة الأمين العام لجامعة الدول العربية السابق عمرو موسى: «المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها ومحددو نتائجها، لقد بات عليهم من الآن فصاعداً القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها».
وتتفرد المملكة العربية السعودية بتمسكها بالثوابت والقيم، واستتباب الأمن والاستقرار، وتوافر الحماية النظامية (القانونية) للأمن الفكري المكفول بنصوص شرعية وبمواد نظامية قانونية وإجراءات متعددة، تضمن تعزيزه وحمايته.
ومن الأنظمة التي تضفي الحماية النظامية وتصون الأمن الفكري ما يلي:
النظام الأساسي للحكم، نظام مجلس الوزراء، نظام مجلس الشورى، نظام المناطق، سياسة التعليم، السياسة الإعلامية، نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نظام المطبوعات والنشر، والهوية السعودية ذاتها، بما في ذلك كل الأنظمة ذات الصلة.
لقد صدر النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية بالمرسوم الملكي رقم (أ/90) وتاريخ 27-8-1412هـ، وركز على ما يهم الوطن والمواطن، ومن ذلك ترسيخ حماية العقيدة والمبادئ، والأمن والاستقرار، وصيانة الوحدة الوطنية، وحب الوطن والاعتزاز به وبتاريخه المجيد. ومن المواد التي وردت في النظام الأساسي للحكم الضامنة والحامية بعد الله للأمن الفكري والوحدة الوطنية في المملكة ما يلي:
المادة الأولى: «المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولغتها الأساسية العربية، وعاصمتها مدينة الرياض».
المادة السابعة: «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة».
المادة الثامنة: «يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية».
المادة التاسعة: «الأسرة، هي نواة المجتمع السعودي وتربي أفرادها على أساس العقيدة الإسلامية، وما تقتضيه من الولاء والطاعة لله، ولرسوله، ولأولي الأمر، واحترام النظام وتنفيذه، وحب الوطن والاعتزاز به وبتاريخه المجيد».
المادة الحادية عشرة: «يقوم المجتمع السعودي على أساس من اعتصام أفراده بحبل الله، وتعاونهم على البر والتقوى، والتكافل فيما بينهم، وعدم تفرقهم».
المادة الثانية عشرة: «تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام».
المادة الثالثة عشرة: «يهدف التعليم إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء، وإكسابهم المعارف والمهارات، وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم، محبين لوطنهم، معتزين بتاريخه».
المادة الثالثة والعشرون «تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله».
المادة التاسعة والعشرون: «ترعى الدولة العلوم والآداب والثقافة، وتعنى بتشجيع البحث العلمي، وتصون التراث الإسلامي والعربي، وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية».
المادة الرابعة والثلاثون: «الدفاع عن العقيدة الإسلامية، والمجتمع، والوطن واجب على كل مواطن، ويبين النظام أحكام الخدمة العسكرية».
المادة السادسة والثلاثون: «توفر الدولة الأمن لجميع مواطنيها والمقيمين على إقليمها، ولا يجوز تقييد تصرفات أحد، أو توقيفه، أو حبسه، إلا بموجب أحكام النظام».
المادة التاسعة والثلاثون: «تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة، وبأنظمة الدولة، وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها، ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة، أو الانقسام، أو يمس بأمن الدولة وعلاقاتها العامة، أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه، وتبين الأنظمة كيفية ذلك».
والسؤال المهم الذي نحاول الإجابة عليه من خلال هذه المقالات هو: ما مدى إسهام المثقف في تعزيز الحماية النظامية للأمن الفكري وبث ثقافته، وتوطيد الركائز الأساسية للأمن المجتمعي وثوابته، ومن ذلك: التمسك بالعقيدة الإسلامية، وتعظيم مكانة الحرمين الشريفين، والاعتزاز بمنجزات الوطن والمحافظة على مكتسباته وذاكرته التاريخية والتكافل الاجتماعي، ومواجهة الاختلالات التنموية، وترسيخ النزاهة ومكافحة الفساد، والتماسك الأسري، والتصدي للغزو الفكري، وحملات التشويه والتشكيك المعادية.