د.عبد الرحمن الحبيب
«فيروس أجنبي».. هكذا أطلق الرئيس ترامب على كورونا المستجد في خطابه قبل أسبوعين. العديد من المحللين السياسيين استغرب هذا الوصف الذي يوحي بمعاداة الأجنبي، إلا أن أحدهم (بول براندوس المختص بتقارير البيت الأبيض) لا يرى غرابة «فالذي كتب أغلبه جاريد كوشنر ومستشار مكافحة الهجرة المتشدد ستيفن ميللر، بمحاولة لتصوير الفيروس، الذي نشأ بمدينة ووهان وسط الصين، كتصدير آخر نحن لا نحتاجه ويجب إيقافه عند الحدود».
هنا مزج الحماية ضد الفيروس مع الحمائية الاقتصادية ضد العولمة، وأقل ما يقال عنه أنه غير مناسب إن لم يكن غير بريء، يقول براندوس: «هذا يدعم نظرية ترومبية.. وهي أن العولمة سيئة. فالعالم بالخارج للنيل منا، وخداعنا، والإضرار بنا. المعاهدات أحادية الجانب تهدف، قبل كل شيء، إلى نهبنا.. الآن يأتي فيروس، «فيروس أجنبي»، من مكان بعيد يقوم بإغلاق اقتصادنا، مسبباً سوقاً راكدة سيئة، وغارساً الخوف على صعيدنا الوطني..». وقد خلص كثير من المحللين إلى أن خطاب ترامب انتهى إلى الضرر أكثر من المساعدة في رغبته الظاهرة لتهدئة الأسواق العالمية، إذ شمل قوله إن البضائع من أوروبا ستحظر، لكن البيت الأبيض استدرك أنه لم يكن دقيقاً وأن الحظر يقتصر على الركاب (ستيف جولدستاين).
بعدها بأسبوع عاد ترامب واستخدام مصطلحاً أكثر حدَّة: «الفيروس الصيني» ونطقها مرة أخرى بطريقة اعتبرت استفزازية، فجاءه الرد حاسماً هذه المرة بأن «منظمة الصحة العالمية كانت واضحة منذ بداية تفشي المرض.. الفيروسات لا تعرف حدودًا ولا تهتم بعرقك أو لون بشرتك أو كم من المال لديك في البنك.. من المهم حقًا أن نكون حذرين في اللغة التي نستخدمها» (مايك رايان، المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية بمنظمة الصحة العالمية). وقد حذر العديد من الخبراء من أن هذا المصطلح به عنصرية ويؤدي إلى رِهاب الأجانب، لكن ترامب رد بكل برودة: «إنها ليست عنصرية على الإطلاق.. فقد أتى من الصين».
بالمقابل، ثمة اعتقاد بأن هذا الوباء الذي لا يعرف الحدود الدولية سيوحد البشرية أمام تهديد مشترك، فها نحن نرى وسائل التواصل الاجتماعي تجمع شعوب العالم في ثقافة مشتركة بداية من الطرائف حتى أشد الحِكم رصانة، فضلاً عن ضرورة زيادة التعاون الدولي، فالقضاء على الوباء في بلد لا يكفي طالما أنه موجود في بلدان أخرى.. كورونا سيجبر الدول على توحيد جهودها لمواجهته، وقد يجمع بين دول فرقتها السياسة! بل أكثر من ذلك فقد يتطلب توسيع مفهوم العولمة سواء لإنقاذ الاقتصاد العالمي من الركود أو لمواجهة الكوارث البيئية والصحية..
فهل كورونا يجمع الدول أم يفرقها؟ نظرياً، يمكن تصور كلا الاتجاهين، إلا أنه «في حين أن القادة ذوي التفكير الدولي قد تحدثوا بعبارات لطيفة حول الحاجة للتعاون عبر الحدود في مواجهة تهديد مشترك غير مسبوق، فإن أفعالهم غالباً فشلت بذلك». حسب قول وليام هيج (وزير الخارجية البريطاني السابق) الذي يرى «أن المشكلة لن تحل أبدًا إذا كانت كل دولة تعمل بمعزل عن الدول الأخرى.. وأن أبرز ما اتسمت به أزمة فيروس كورونا هو غياب التنسيق الدولي..».
فهل أثر كورونا سلباً على العولمة بإعاقته حرية التنقل والتواصل حول العالم؟ يرى أيان بريمير (مجلة تايم) أنه «في السنوات القادمة، سيتم تذكر فيروس كورونا على أنه كان معلماً مهماً على طريق إنهاء المرحلة الأولى من العولمة». وفي السياق ذاته يرى المفكر الاقتصادي فيلب لغرين أنه من المحتمل أن ينهي كورونا العولمة كما نعرفها؛ مشخصاً ثلاثة مخاطر تواجه العولمة الاقتصادية والتكامل الدولي، هي: خطورة الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية المتشابكة، حظر السفر، الحمائية والقيود على التصدير.. كلها تجعل الاقتصادات منغلقة وطنياً ومعها تكون السياسة أكثر انغلاقًا، إذ توفر مبرراً سياسيًا للقوميين الذين يفضلون المزيد من الحمائية وضوابط الهجرة. ذلك يمكنه تشكيل نقطة تحول تدفع العديد من الشركات إلى إعادة تصميم سلاسل التوريد الخاصة بها والاستثمار في أنماط إنتاج أكثر محلية. وقد يوجه ضربة لسلسلة التوريد الدولية المجزأة، وتقلل من سفر رجال الأعمال العالميين.
ولعل الأهم - حسب لغرين - أن أزمة كورونا تدعم القوميين الذين يفضلون ضوابط أكبر للهجرة والحمائية بوضع قيود على دخول البلاد والتجارة؛ فهذه الأزمة كشفت أيضًا ضجيج تأكيدات القوميين بأن سياساتهم الحمائية والمناهضة للهجرة تجعل الناس أكثر أمانًا، وتزيد من التصورات بأن الأجانب يشكلون تهديدًا.. والنتيجة لذلك، تهدد أزمة كورونا بالدخول إلى عالم أقل عولمة.
يبدو الاحتمال الأرجح هو ظهور مرحلة جديدة من العولمة لكن ليس نهايتها، فالعالم متداخل، ولا يبدو أن العودة للقوقعة الحدودية ممكناً إلا مؤقتًا.. ففي الوقت الذي يتهم فيه كل طرف الآخر بالتقصير.. الصين تتهم أمريكا، وأمريكا تتهم الصين، وأوربا تتهم الاثنين.. فإن المتهم الرئيسي هو ضعف التعاون الدولي الذي بدونه لن يتم القضاء على كورونا.. فبعدما أعلنت دول آسيوية (كوريا الجنوبية، الصين، سنغافورة) تخلصها من وباء كورونا، ها هي قبل أيام تشكو من عودته مرة أخرى بسبب القادمين من الخارج..