د. عيد بن مسعود الجهني
الإسلام دين الله الخالد، يحقق الخير للإنسان ولا يعوده على الشر، وأباح الملكية، وفي نفس الوقت شرع من النظم والتدابير ما يتدارك الآثار السلبية التي قد تنجم عن طغيان النزعة في حب امتلاك المال، قال تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (7) سورة الحشر، وبهذا ضمان لعدم فقدان التوازن الاجتماعي وتداول للمال بين فئة قليلة من المجتمع.
وضمن الأنظمة والقوانين واللوائح التي سنتها الدول تحافظ في الإسلام على المال وتصونه من الفساد والرشوة والمحسوبية، وبهذا فإنها (الدولة) تحقق أهدافها الحضارية والتنموية في الحفاظ على المال العام حتى يؤدي دوره كقيمة لا غنى عنها في حفظ نظام الحياة الإنسانية.
إذا المال العام هو من أهم قوام الحياة وتعمير الأرض، والله جلّت قدرته أمر عباده بالنص القطعي بالمحافظة عليه قال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } (5) سورة النساء.. {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} (56) سورة الأعراف، أي لا تفسدوا شيئاً في الأرض بعد الإصلاح بما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون وشيده العقلاء المخلصون من النواحي المادية والمعنوية، والإفساد شامل إفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغضب والسرقة والاحتيال.
الله جلّت قدرته استخلف الناس جميعاً على بعض المال، والفرد من الناس يبذل ما في وسعه للمحافظة على المال فإن الناس جميعاً مكلفون بالمحافظة على المال العام فنفعه يعود عليهم جميعاً دون أن يستأثر أحد به لنفسه. الآيات الكريمة بنصها القطعي حرّمت الفساد بجميع صوره ومنها بالطبع الاستيلاء على الأموال العامة والخاصة ونهبها وبخس الناس أشياءهم، ومن يتدبر الآيات القرآنية يتضح منها أنه كلما كان للفاسد ولاية وسلطان وسلطة كان الفساد أشد وقعاً على الناس إذ إن من أشد دوافع الفساد وبواعثه طلب العلو في الأرض بغير حق، والله سبحانه وتعالى نهى عن الفساد في الأرض بعد إصلاحها، كما نهى عن سلوك طريق المفسدين واتخاذ وسائلهم وتوعدهم الله بالعذاب الشديد والخسران الأكيد عاجلاً وآجلاً، فالله جلّت قدرته لا يخفى عليه عمل الفاسدين وإن زعموا أو بانوا نفاقاً أنهم من القوم المصلحين والله سبحانه وتعالى توعد هؤلاء الفسدة بأن ينزلهم المنزلة التي يستحقونها من الخزي والهوان بقدر ما أفسدوه.
القرآن الكريم والسنة النبوية وضعت ضوابط المحافظة على المال العام ولم تترك مفسدة إلا ونهت عنها وطلبت درءها وإزالتها وإلغاءها، ومن أؤتمن عليه وأخذ شيئاً فهو يعرض نفسه لسخط الله.. عن خولة الأنصارية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري.
عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً من الأزد على الصدقات يقال له ابن اللتبية فجاء، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال العامل نبعثه على عملنا فيجئ فيقول: هذا أهدي لي وهذا لكم، فهلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه فينظر هل تأتيه هدية أم لا، والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء سراً إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم، قال: اللهم هل بلغت ثلاثاً) رواه البخاري.
والأحاديث النبوية متعددة قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه البخاري، وقال (إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) رواه البخاري، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أيما لحم نبت من حرام فالنار أولى به) رواه أحمد وابن ماجه.
وعندما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية واعتذروا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قبولها لخوفهم -على رغم قوة إيمانهم- أن يلحقهم بعض من الغلول، فقبل النبي عذرهم ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك) رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) رواه مسلم.
وفي عصر الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان عتبة بن أبي سفيان حاكماً على كنانة، فجاءه ومعه مال كثير فسأله عمر: ما هذا يا عتبة؟ قال عتبة: هذا مال خرجت به معي، وانتفعت به في التجارة، فسأله عمر: وما لك تخرج هذا المال معك في هذا الوجه؟ ثم أخذ منه نصف ماله، وضمه إلى بيت المال، ثم خطب رضي الله عنه في يوم الجمعة فقال: اللهم أشهدك على أمراء الأمصار، فقد بعثتهم ليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم، ويقيموا بهم الصلاة، ويقضوا بينهم الحق، ويقسموا بينهم بالعدل، ويعدلوا في معاملتهم، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إليّ.
وحين بلغه أن عمرو بن العاص وكان واليه على مصر قد اغتنى وظهرت عليه آثار النعمة والرغد، كتب إليه: أما بعد، فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مال قبل أن أستعملك، فأنى لك هذا؟ فوالله لو لم يهمني في ذات الله إلا من أختان في مال الله لكثر همي، وانتثر أمري، ولقد كان عندي من المهاجرين من هو خير منك، ولكني قلدتك رجاء غنائك فاكتب إليّ: من أين لك هذا المال؟ وعجّل.
فكتب إليه عمرو بن العاص: أما بعد: فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين، فأما ما ظهر لي من مال فإنا قدمنا بلاداً رخيصة الأسعار، كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي تصل بأمير المؤمنين نبؤها، والله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك وقد ائتمنتني، فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك، وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فإذا كان ذلك فوالله ما دققت لك يا أمير المؤمنين باباً ولا فتحت لك قفلاً. فرد عليه عمر برسالة قال فيها: ولكنكم معشر الأمراء قعدتكم على عيون الأموال، ولن تعدموا عذراً، وأرسل إليه محمد بن مسلمة ليتسلم نصف ماله.
وقد جاءت الأحاديث النبوية الشريفة في نصوصها متفقة في معانيها بشأن الفساد مع النصوص القطعية في القرآن الكريم التي حرمت الفساد تحريماً قطعياً في جميع أنواعه.
إذاً الفساد محرم في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بكل صوره، فالمنصب بصلاحياته الإدارية والمالية الواسعة والبيروقراطية العفنة يمنح صاحبه من السيطرة على أنشطة مقدرات القطاع العام ويتصرف بأمواله فسادا أو رشوة من خلال ترسية المناقصات على شركات وأفراد لا يستحقونها وليسوا مؤهلين لها منحهم العقود والصفقات الإدارية والامتيازات العديدة، وهذه الصلاحيات تغري بالفساد خصوصاً مع قصور نظام المحاسبة والرقابة السابقة واللاحقة على المصروفات الحكومية والتدقيق وغياب قوانين الثواب والعقاب (أي قانون من أين لك هذا)؛ فغيابه يفتح الباب مشرعاً للفسدة لإساءة استغلال السلطة الوظيفية للكسب الخاص ناهيك عن تواضع أداء السلطة القضائية.
ولذا تعددت صور الفساد الإداري والمالي ومنها على سبيل المثال لا الحصر الرشوة والمحسوبية والاستيلاء على المال العام والاختلاس والتزوير والاحتكار، والنصب والاحتيال، والغش والتدليس وغيرها، وهذه جرائم تعد خيانة للأمانة قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب.
والله ولي التوفيق،،،