حمّاد السالمي
منذ أواخر شهر ديسمبر الفارط؛ والعالم -كل العالم- يعيش على أعصابه، ويتابع بقلق وخوف وهلع؛ كل جديد ودقيق من أخبار الحوادث اليومية -بل الساعيّة- لتفشي مرض (كورونا) الجديد، وتحوله من مرض إلى وباء؛ فجائحة عالمية.
أثبت فيروس (كورونا المستجد COVID-19)؛ أنه الوحيد القادر على توحيد هذا العالم شرقه وغربه. ها هي الحكومات مستنفرة، وها هي مراكز الأبحاث والدراسات تلهث؛ في محاولة جادة للوصول إلى لقاح مضاد للمرض. اقتصادات العالم تنهار، والحياة العامة تسير نحو التوقف، والشعوب والمجتمعات تراقب الموقف في هلع غير مسبوق. عالم اليوم الذي يدار رقميًا؛ ليس هو عالم الأمس ما قبل (الميديا) الرقمية. الصورة والمعلومة تنتقلان لحظة بلحظة، فتصلان لمليارات البشر أينما كانوا دون عناء، والإنسان في هذا الزمان؛ يدور في دولاب الإعلام شاء أم أبى، والمشكل الحقيقي ليس في الصورة والمعلومة؛ وإنما في الآثار المترتبة عليهما في ذهنية الإنسان المتلقي.
كل التقارير تشير إلى أن مرض كورونا هو فيروس إنفلونزا متجدد، قد يكون ناتجًا عن خطأ بشري في معامل ومراكز أبحاث علمية في بقعة ما من هذا العالم، ثم تولت الطيور والحشرات والحيوانات المهمة بعد ذلك، ومصيره إلى زوال بأمر الله، وإن ضحاياه لن يكونوا بعدد ضحايا أمراض وبائية سبقته، وسوف يصبح عن قريب من الأمراض التاريخية مثل مرض الجدري. المشكل -وهو الأعظم والأخطر من مرض كورونا- هو ما ينتج عن المرض نفسه من آثار نفسية لا تحمد عقباها.
إن الإجراءات كافة التي اتخذتها وتتخذها الدول والشعوب لتجنب تفشي الفيروس؛ مفهومة ومقدرة وواجبة، وهي شر لا بدّ منه.. يتوقف التنقل والسفر، وتُمنع التجمعات واللقاءات، وتتوقف الأنشطة المختلفة رياضية وفنية وثقافية واجتماعية، ويخضع الناس للفحوص والعزل والإقامة الجبرية وما إلى ذلك.. هذا جيد.. لكن يظل هناك عامل آخر ملازم للعامل العضوي، ألا وهو العامل النفسي. يظل هناك مرض ناتج عن مرض. مرض نفسي من آخر عضوي، مرض الخوف والفزع الذي يدب في النفوس شيئًا فشيئًا، حتى تلمس من البعض أنه ربما ينتظر دوره في صفوف المصابين ثم الموتى والعياذ بالله.
إن الخوف الذي يعم البشرية اليوم؛ يؤسس لأمراض نفسية خطيرة في المجتمعات البشرية، لن تتوقف مع توقف خطر كورونا، بل تستمر وتظل تعصف بالكثيرين، وفي مقدمها مرض الاكتئاب أجارنا الله وإياكم منه. إن توقع المرض؛ وترقب وصوله، وتصور النهاية بسببه، هو مرض أخطر من المرض نفسه، وهو حالة نفسية مرضية تصاحب كافة الاستعدادات والإجراءات المتخذة للوقاية، وينبغي أن يؤخذ هذا في الاعتبار، وأن تكون هناك برامج إعلامية صحية ونفسية ملموسة، تصل إلى كافة المرعوبين لتخفف من رعبهم، وتقلل من فزعهم، وتشتت من هلعهم.
من يتابع كافة الإجراءات الصحية في كل العالم؛ يجد أنها تنصب على طرق الوقاية والعلاج عضويًا من كورونا بشتى الوسائل، لكنها تتجنب التطرق للعوامل النفسية التي تصاحب هذه الإجراءات أو تنتج عنها، والتي لا توفر لا الكبار ولا الصغار من أولئك الأصحاء؛ الذين يراقبون.. بل ويتفاعلون ساعيًّا مع الحالة؛ بكل خوف وهلع وكآبة ما بعدها كآبة.
كرونا في الطائف..!!
ولعله من المناسب أن أختم هذا المقال بهذه الملحة، أو لنقل: (طرفة تاريخية).. بل هي معلومة عجيبة. فقد مرّ بي في مطالعاتي التاريخية؛ مما ورد عند البكري في (معجم ما استعجم)، وعند ابن الأثير في (الكامل)؛ عن الاحتراب الذي كان بين فرعي ثقيف الكبيرين في الجاهلية: (الأحلاف وبني مالك)، أنهم اقتتلوا في وقعات كثيرة أشهرها: (يوم الطائف)، ويوم (أُنان).. ثم اقتتلوا بعد ذلك في (يوم غمر ذي كندة) من نحو نخلة، و(يوم كرونا) من نحو حلوان. ثم يختم المؤرخون هذا التمليح المليح بقولهم: وصاح عفيف ابن عوف اليربوعي في ذلك اليوم؛ صيحة يزعمون أن سبعين حُبلى منهم ألقت ما في بطنها، فاقتتلوا أشد قتال، ثم افترقوا..! شاهدنا في هذه الطرفة؛ هو ذكر (كرونا) في الخبر التاريخي المغرق في القدم في هذه البقعة من الجزيرة العربية. والشيء بالشيء يذكر اليوم مع وباء (كورونا)، وليس المكان ولا الموقعة. هل (كرونا) الطائف اسم مكان كوادٍ وجبل أم ماذا..؟ وهو بناحية حلوان.. أين هذه المسميات اليوم بعد مرور أكثر من ألف وخمس مئة سنة..؟ بحثت كثيرًا دون أن أصل إلى نتيجة، ولعل هذه المسميات المكانية المرتبطة بحوادث تاريخية؛ اندثرت مثل غيرها مع مرور هذه المئين من السنين. أما (الأُنان) فهو شعب صغير معلوم في جبل الوشحاء من جبال التومان بين الطائف ونَخِب، وسمي بهذا الاسم؛ لكثرة أنين الجرحى نتيجة هذه الوقعة فيه.
اللهم لا (كورونا) مرضية، ولا (كرونا) تاريخية؛ وجنبنا اللهم كل مرض، وآفة، وجائحة، ووقعة. من شعر السراج الورّاق:
كَمْ شِدَّةٍ جَاءَ في أَعقابِها فَرَجٌ
عَن فَجْرِهِ انشَق لَيْلُ الحَادِثِ الجَلَلِ
وَكَمْ جَلا اللَّهُ مِن غَمَّاءَ أَدَركَها
بِلُطفهِ لا بِحَوْلِ المَرْءِ والحِيَلِ