د.معراج أحمد معراج الندوي
إن الثقافة قوّة فاعلة من قوى البناء الحضاري في مدلوله الشامل الفلسفي والأدبي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري.
والثقافة طاقة للإبداع في شتّى حقول النشاط الإِنساني، ثم إن الثقافة البانية الهادفة الفاعلة، لا بد وأن تكون في خدمة السياسات التي تتجه نحو ترقية وجدان الإنسان وتهذيب روحه وصقل مواهبه، وتوظيف طاقاته وملكاته في البناء والتعمير. فالثقافة قوية فاعلة تعمل من أجل تحقيق الرقيّ والتقدّم والرخاء والازدهار.
إن تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية تاريخ ناصع أنار مدارج السلوك والقيم لشعوب الهند المختلفة الأعراق والمتباينة المعتقدات والأديان، بل كان المسلمون أولاً من أسهم في جعل الهند وحدة سياسية واحدة ومتكاملة، وحينما وحدوها ضمن نظام سياسي وإداري واحد لإشراف المسلمين وسيادتهم.
لم يقف الأمر عند حدود االسيادة الساسية والإدارية، بل تعدتها إلى السيادة اللغوية، إِذ هيمنت اللغة الأردية على لسان الهنود ومعارفهم الثقافية، وقبلها اللغة الفارسية التي توغلت في مفاصل اللغات الهندية وعلى رأسها اللغة السنسكريتية.
إن بلاد الهند غنية بتراثها وثقافتها منذ القدم، وهي بذلك أصبحت من عوامل التأثير في ثقافات الشعوب الأخرى وحضاراتهم قديمًا وحديثًا، ومما يزيدنا فخرًا واعتزازًا أن بلادنا وما فيها من العجائب والطوائف حلّت محل التقدير والإعجاب. يتمير ذلك في أدب الرحلات والترجمة والقصائد العربية التي صدرت فيها مئات المجلدات عبر القرون، التي تزادن بها المكتبات العربية والإسلامية كما صارت هذه الإبداعات تحفة علمية لعشاق العلم وطلابه في كل القارات.
كان للتنوع العرقي والثقافي والمعرفي الذي مر على حكم الإسلامي في المدائن الهندية أسباب مباشرة وراء تلك المدن في العالم الإسلامي لإبراز صورة المدن بأرقى حالاتها، ومنها تجلت حالة التنافس بين المدن الهندية في إنعاش الحركة العلمية وتطورها، وهكذا ضربت هذه المدن الهندية في ظل الحكم الإسلامي كل واحدة منها مثلاً في ذلك التطور والازدهار.
إن مواقف الإبداع والرقي التي وصفها المسلمون في الهند بسواعدهم وإرادتهم الكبيرة تشير إلى دورالمسلمين في الإبداع الحضاري على المستوى العالمي، لا على مستوى الأوطان العربية فحسب، وكذلك تكشف عن مفصليات العمل العسكري والسياسي في مجال نشر الدعوة الإسلامية في الهند.
ارتقت الحضارة الإنسانية في تطورها من خلال الأخذ والعطاء والتأثير المتبادل. واللغة هي أقدم الوسائل للاتصال بين الشعوب. وقد مرّ الاتصال الإنساني بمراحل شهد خلالها تطوّرات ظاهرة انتقلت معها العملية الاتصاليّة من الإشارات البسيطة إلى التكنولوجية الجبّارة الحديثة.
نتيجة لمؤثرات الحضارة الإسلامية وتمازجها مع ثقافة الهند، قد انعكس في تطور علمي وثقافي كبير حيث برزت أسماء لمدن الهند لمع تاريخها نشاطًا وازدهارًا في ظل الحكم المسلمين. أصبحت المدن الهندية الشهيرة مراكز إشعاع حضاري يعزز المعرفة الإنسانية ويدفع نحو التقدم والرقي.
لقد أسهم المسلمون في جعل مدن هندية كثيرة مراكز عليمة مبدعة ومتطورة، لا تقل إبداعًا وابتكارًا عن بقية المدن الإسلامية الأخرى في العالم الإسلامي، إِذ فاقت مدينة دلهي وآجره ولاهور في مضمار التعليم والصناعة المعرفة الإنسانية. وظلت هذه المدن راعية لثقافة ومعارف الحضارة الإسلامية في الشرق قرون عديدة.
حافظت المدن الهندية وفي مقدمتها مدينة دلهي على مكانتها العلمية وذلك بالرعاية والعناية الفائقتين التي أبداها أباطرة المغول المسلمين في الهند. وقد بلغت المدينة الهندية ذروة التطور والازدهار في عصر الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر.
شهدت حضارة المسلمين في الهند تطورًا كبيرًا في المجال الثقافي والعلمي، وأن الإنتاج العلمي والإبداع المعرفي الذي وضعه المسلمون في الهند يعد ثروة علمية وتراثية عظيمة، وأسهمت في إثراء الثقافة الإنسانية فضلاً عن الثقافة الإسلامية.
شكل المسلمون في الهند وحدة حضارية لها شخصية مستقلة استمدت مكوناتها من التراث العربي الأصيل ومن الحضارة الهندية العتيقة.كان لهم نشاط ملموس في جميع مجالات الحياة الهندية، كما كان لهم إسهامات جليلة في إثراء التراث العربي الإسلامي. نهض من أرض الهند على مر العصور أدباء وشعراء عرفوا بفصاحة اللسان العربي المبين، وخرج منها صفوة من العلماء ولفيف من رجال الفكر والقلم الذين قاموا بدور بارز في مجال التصنيف والتأليف وتركوا آثارًا خالدة، لا يسوغ لمؤرخ تاريخ الأدب العربي والثقافة العربية الإسلامية أن يغض البصر عنها ويبخس حقها.
تحمل الهند في أحضانها آلافًا من تلك المآثر العلمية وتحتضن عددًا كبيرًا من النوادر واللآلي الثمينة التي فاضت بها أقلام إعلام الهند. لقد أبدع علماء الهند المسلمين في رفد المعرفة الإنسانية بأصناف متنوعة من المعارف والعلوم والآداب، وكان لهم نصيب وافر في تدوين المعرفة والفنون التي تعكس حالة التطور والتقدم العلمي في الهند في عصر دول المسلمين.
لا غرو في أن المسلمين في الهند قد شيدوا مئات المكتبات التي توجد فيها ذخائر كبيرة من الكتب وجداول وقوائم خاصة بالمطبوعات العربية في علوم الحديث والتفسير والفقه والطب والمنطق والكيمياء والفيزيا والهيئة والتاريخ والجغرافيا. والمؤلفات العربية التي أصدرتها هذه المعاهد على الموضوعات المختلفة هي مهوى الأفئدة ومحط الأبصار لدى العلماء والباحثين في مشارق الأرض ومغاربها.
إن الهند كانت قبل دخول الإسلام بلادًا متخلفة ومنقطعة عن العالم كله. وكان الناس يعانون من الشقاء والبؤس من أجل تفاوت الطبقات، ومن جور الأديان وانتشار الفساد. وكان المجتمع الهندي كبحر يأكل السمك الكبير فيه السمك الصغير حتى دخل المسلمون، فتغير مجرى التاريخ وانقلب تيار المجتمع الهندي. فكان دخول المسلمين في هذه البلاد نقطة التحول من التخلف إلى التقدم، ومن الجمود إلى الحركة. ومن عبودية الناس إلى الإخوة والمساواة والحرية، ومن التقاليد البالية القديمة إلى التقدم والتطور الحديث.
شرقت شمس النهضة في الهند مع دخول المسلمين وبدأت الهند تتقدم وتزدهر حتى طار صيتها في كل ناحية من أنحاء العالم. فمن أراد أن يعرف ما نقله المسلمون إلى هذه البلاد من ثمرات الحضارة ونتاج العقول، وما أضافوا عليها من الجمال والكمال، فلينظر إلى ما كانت الهند قبل دخول المسلمين، ثم يقارن بين ذلك وبين ما تجملت به بعد ما استمر الحكم الإسلامي مدة من الزمان وما هي عليه الآن.
** **
الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية، كولكاتا - الهند