د.شريف بن محمد الأتربي
منذ خلق الله تعالى الأرض ومن عليها والجميع يلهث وراء المعرفة، تلك الكنز الخفي غير الملموس الذي يحرك الدوافع والكوامن لدى جميع المخلوقات لاتخاذ قرارات أو بناء مواقف.. وكلما اتسعت دائرة الوجود على هذه الأرض تراكمت معها المعرفة.
وقد فطن الإنسان منذ القدم في ظل الحضارات الأولى إلى أهمية المعرفة؛ فعمل على تسجيلها بكل الوسائل المتاحة في ذاك الوقت، سواء عن طريق الصور أو الرموز أو الكتابات.
ومع التقدُّم الزمني والتحول التقني بدأت النظرة إلى المعرفة تتغير من مجرد معلومات وبيانات يحفظ بعضها بصورة مؤقتة، ويوضع البعض الآخر في مستودعات الحفظ (الأرشيف) لحين الحاجة إليها. وتبدلت النظرة، وأصبحت هذه المعارف مصدرًا للحصول على المال، سواء على هيئتها ككتل بيانات، أو بعض تصنيفها وتحليلها.
وتمرُّ المعرفة بثلاث مراحل حتى تصبح ذات قيمة مضافة لصاحبها؛ فهي تظهر أولاً على شكل بيانات، يمكن تعريفها بكونها المادة الخام التي لم تترجم بعد.
فالبيانات هي مواد وحقائق خام أولية، وهي ليست ذات قيمة بشكلها الأولي، هذا ما لم تتحول إلى معلومات مفهومة ومفيدة، وهي المرحلة الثانية للوصول للمعرفة، ويمكن تعريفها بأنها حقائق وبيانات منظمة، تشخِّص موقفًا محددًا أو ظرفًا محددًا، أو تشخص تهديدًا ما أو فرصة محددة.
ومع تكوُّن المعلومات نصل إلى المرحلة الثالثة، وهي إنتاج المعرفة، وهي نتاج معالجة البيانات (تحوُّلها إلى معلومات)؛ إذ تصبح معرفة بعد استيعابها وفهمها. فتكرار التطبيق في الممارسات يؤدي إلى الخبرة التي تقود إلى الحكمة.
والمعنى اللغوي للمعرفة هو الإدراك الجزئي أو البسيط، في حين أن العلم يقال للإدراك الكلي أو المركب. كذلك فقد تم تعريف المعرفة بأنها معلومات وحقائق، يمتلكها الشخص في عقله عن شيء ما.
ويمكن اعتبار المعرفة على أنها: «مجموعة المعلومات والأفكار ومختلف المنتجات الفكرية والذهنية التي تعبِّر عن حقائق أو علاقات أو نماذج، سواء كانت علنية ظاهرة قابلة للتداول والتقليد، أو كانت ضمنية تظهر في شكل تصرفات وسلوكيات الأفراد؛ إذ تكون نتيجة لتفكير ذهني أو ممارسات وتجارب ميدانية أو مزيج بينهما؛ إذ تكون قابلة للاستخدام لأغراض علمية أو تكنولوجية، وتتمثل عناصرها في المعلومات والعلم والتقنية والهندسة والخبرة البشرية».
وفي المجال الاقتصادي تعرف المعرفة على أنها: «سلعة غير منظورة intangible متميزة في مضمونها، منافية لقوانين السلع المنظورة؛ فهي لا تخضع لقانون الندرة كونها تعتمد على العقل البشري، ولا تخضع لقانون تناقص الغلة، بل بالعكس، هي تحقق عوائد متزايدة». وقد ميز Arrow بين ثلاث خصائص للمعرفة باعتبارها سلعة اقتصادية من حيث إنتاجها واستعمالها:
المعرفة ناتجة من معلومة؛ وبالتالي من الصعب السيطرة عليها ومراقبتها؛ فهي قابلة للتقاسم والاستعمال من طرف أشخاص ربما لم يقوموا بإنتاجها.
المعرفة هي منتج غير قابل للمنافسة، وهي لا تفنى بالاستعمال، كما أن سعرها لا يمكن أن يكون ثابتًا كما في السلع الأخرى.
المعرفة هي عملية تراكمية، أي إن إنتاج معارف جديدة هو نتيجة للمعارف الموجودة مسبقًا؛
وبالتالي لا نستطيع مراقبة الزيادة السريعة لانتشار المعرفة. ونتيجة للتطور التقني على مدار العقود الخمسة الماضية فقد تكونت لدى العديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات كمٌّ هائل من البيانات المنظمة وغير المنظمة، وكان لا بد من وجود طريقة ما للاستفادة منها.
وفي عام 2011 عرّف معهد «ماكنزي» العالمي البيانات الضخمة بأنها: أي مجموعة من البيانات التي هي بحجم يفوق قدرة أدوات قواعد البيانات التقليدية من: التقاط، تخزين، إدارة وتحليل تلك البيانات.
وتتألف البيانات الضخمة من كل من المعلومات المنظمة التي تشكل جزءًا ضئيلاً، يصل إلى 10 % مقارنة بالمعلومات غير المنظمة التي تشكل الباقي.
والمعلومات غير المنظمة هي ما ينتجه البشر، كرسائل البريد الإلكتروني، مقاطع الفيديو، التغريدات، منشورات فيس بوك، رسائل الدردشة على الواتساب، النقرات على المواقع وغيرها.
ومع ظهور مصطلح البيانات الضخمة Big data ظهرت العديد من المصطلحات الأخرى التي يعتبر مخرجها رافدًا من روافد البيانات الضخمة مثل التغريدة tweet، التي اعتمدها قاموس «أوكسفورد»، وأضافها للقاموس مع مصطلحات مستحدثة أخرى.
أما عن اقتصاد المعرفة فيُقصد بالاقتصاد المعرفي الذي يطلق عليه في بعض الأحيان كذلك «الاقتصاد الجديد» أو «اقتصاد المعلومات»، الاقتصاد القائم على المعرفة، سواء بشكل مباشر (Economy Knowledge أو غير مباشر (Knowledge Based Economy)، وتعتبر في إطاره المعرفة المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي.
وتعتمد اقتصادات المعرفة على توافر تقنية الاتصالات والمعلومات، وتستخدم الابتكار والرقمنة لإنتاج سلع وخدمات ذات قيمة مضافة مرتفعة. ومع ظهور مصطلح البيانات الضخمة أصبح اقتصاد المعرفة أحد أكثر الاقتصاديات أهمية في العالم، بل أصبح يشكل ما يقارب 10 % من الاقتصاد العالمي؛ وهو ما يبرز أهميته كأحد المصادر التي يمكن أن تحقق دخلاً، خاصة للدول التي تعاني من شح الموارد الاقتصادية.
وتعمل البيانات الضخمة الآن كمساعد حقيقي وفعّال في معالجة أهم القضايا التي تواجه البشرية، مثل الاحتباس الحراري والتغيُّر المناخي ومعالجة الأمراض والأوبئة المستعصية، كما دراسة الأسواق وتوجهات الجمهور ومساعدة الدول الحكومات على معرفة رغبات وتوجهات الشعوب.
ومن خلال مصطلحي البيانات الضخمة واقتصاديات المعرفة نجد أن استخدام هذين المصطلحَين معًا يمكن أن يوجِد حلاً للعديد من المشاكل في كل مجالات الحياة، العامة منها والخاصة.
وتتوافر لدى كثير من الهيئات والوزارات والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية في المملكة العربية السعودية كمٌّ هائل من البيانات الضخمة التي يمكن من خلالها حل الكثير من المشكلات، سواء في مجال التعليم أو الصحة أو الطرق والمواصلات، أو في علاج مشاكل ارتفاع نِسَب الطلاق في سنوات الزواج الأولى، وغيرها من المشكلات التي تؤرق المجتمع، وتعرقل خططه الطموحة نحو التقدم والرقي أكثر فأكثر. ومن المفضل لو تم توحيد الجهود، وإنشاء هيئة عامة للاستفادة من البيانات الضخمة، وجلب مدخول اقتصادي من المعرفة بدلاً من العمل الفردي من جانب هذه الكيانا.