د. سلطان سعد القحطاني
التجارب الروائية الأولى:
تعد فترة الحرب العالمية الثانية، ما بين 1939إلى 1945، التي قامت على أنقاض الأولى كارثة إنسانية، ليست على مستوى أوروبا التي بدأت منها، لكنها عمت العالم بشرها فتوقفت الحياة الثقافية والاقتصادية والعلمية، بل كل مناحي الحياة، ما عدا بعض الجهود التقليدية، في التعليم الديني وجهود بعض المثقفين. وعلى الرغم من الكوارث التي سببتها، إلا أنها أيقظت العالم من جديد، فتطورت الصناعات الحديثة، بكل أنواعها وأشكالها، واحتل الاقتصاد العالمي كل أرجاء العالم، من الآلات الجديدة والمخترعات الحديثة، وتوسعت الحياة بكل معطياتها، تعليمية وفكرية واقتصادية، وظهرت ملامح كل بلد بما قدم واستورد. وبعد هذه المقدمة المقتضبة نجد ملامح الهوية تظهر لكل بلد في العالم، ومنها العالم العربي، بداية من وجود الطباعة الجديدة، ودور النشر التي تصدرتها مصر وبلاد الشام بصورة عامة. ووجد المثقف والأديب والصحفي في كل قطر من تلك الأقطار مسؤولية ملقاة على عاتقه للنهوض ببلده أسوة بغيره من بلاد العالم، وكان ذلك أولاً من خلال الصحافة، كوسيلة إعلامية متاحة في بعض الحواضر العربية، ووجد المثقف نفسه مسؤولاً في التوسع في مجال الفكر والأدب، لما اكتسبه من تجربة في البلاد العربية المتقدمة، وخصوصًا من الدارسين في مصر آنذاك، في المجالين، الصحفي والإبداعي، وممن تأثر بهم من غير المبتعثين، فصمم عدد منهم على خوض التجربة، وقد أشرت إلى البداية التي خاضها عبد القدوس قبل هذا التاريخ بعمله (التوأمان) وهو حديث عمّا بين الحربين، واعتبرناها نقطة بداية من حيث قيمتُها التاريخية، وذكرنا ضعفها في حبكة الرواية القديمة (18) فضلاً عن الرواية الحديثة، وكتابها الذين أبدعوا في صياغتها. وعندما نعود بالذاكرة إلى الوراء، وهو زمن بداية ظهور الرواية، فسنجد ظهورها ضعيفًا، ليس من كاتبها فحسب بل من متلقيها أيضًا، الذي كان يميل إلى القصة القصيرة (على ما فيها من تقليدية موغلة في القدم) عند كثير من كتابها، إذا استثنينا من كان يجيد لغة ثانية، من الوافدين خاصة، هذا من جانب، ومن جانب آخر قصر نصها، وقد أشرت في الحديث السابق إلى حوحو والأفغاني وبو شناق، وبعض كتابها، ولأن مجالنا ليس هذا، فلن أوغل في التفاصيل (19) وإذا عدنا إلى موضوعنا الرئيس، عند كتابنا وأدبائنا المؤسسين، فسنجدهم لم يمتهنوا الرواية كما امتهنها كتاب الجيل الحاضر، وإن وجدنا كتاب الجيل الحالي الذين كتبوا الرعين، لكن لن يكون المنتج الأدبي متوازنًا، فلا بد من تفوق أحدهما على الآخر، وهذه ظاهرة لمسناها كمتخصصين في هذا المجال. ونجد بعض الدارسين والباحثين في هذا المجال قد أسرف على نفسه في طرح بعض الآراء، وإن كنا نقره على الظاهر فإننا نختلف معه في الباطن، حيث يقارن بين مجتمعين مختلفين، مجتمع ظهرت ثقافته مبكرة عند قليل من كتابه ومتلقيه، مثل المجتمع المصري، على سبيل المثال، ومجتمع ورث الشعر منذ القرون الأولى، وتغْلب على سكانه في ذلك الوقت الأمية والتعليم التقليدي، لكن نظرة خاطفة على تلقي الرواية والقصة القصيرة في عهودها المتأخرة يبطل تلك الآراء القديمة، جملة وتفصيلاً.
يذكر سباعي عثمان أن الأدباء والقراء انشغلوا بالشعر إلى فترة قريبة جدًا، وهذا نوافقه عليه، أما الذي لا نوافقه عليه فالحكم على حقبة سابقة، ذكرنا أسبابها ووراثتها للتراث، وما يزال إلى اليوم (20) لكن اليوم يختلف عن الأمس في كل تفاصيله، ولا نود الإغراق في الخلافات بين فنين متقدمين، ستتاح لنا الفرصة في الفصول القادمة لمناقشة المزيد منها عندما نفصل في نتاج كتاب المرحلة الثانية بإذن الله.
المرحلة الثانية
لم تكن المرحلة الأولى أكثر من محاولات في توطيد أدب القصة بشكل عام، لم تظهر فيها إلا القليل من المحاولات لأدب الرواية الذي لم يستقر على حال له حال، والمثقفون يعتمدون في دراساتهم ومقالاتهم (وهي الأكثر) على مصدرية الفعل (روى) سواءً كان في مصطلح الحديث النبوي، أو رواية الشعر، وكلاهما مصطلح مخالف لهذا الفن، لم يفصل فيه القول العلمي النقدي، فنجد- على سبيل المثال- الناقد المثقف الكبير في زمانه، محمد حسن عواد، ينقد رواية (التوأمان) لعبد القدوس الأنصاري، فينعتها حينًا بالقصة وأخرى بالرواية (21) وهذا المخاض الذي تعرضت له الثقافة القصصية -بصفة عامة- هو الذي جعل بعض المثقفين الأدباء والباحثين يركزون جهودهم على صياغات جديدة في هذا المجال، يهدفون من ورائها إلى تأسيس الفن الروائي، ومن الطبيعي أن تكون التجارب الأولية عرضة للأخطاء التي يمكن تلافيها فيما بعد في نتاج يحقق الهدف الذي مهد له الرعيل الأول من الرواد. فنجد الطبيب فيما بعد، محمد نور الجوهري (جوهرجي) يصدر روايته الوحيدة (الانتقام الطبعي) سنة 1935م، التي اختلف فيها الدارسون، هل هي رواية، أو قصة طويلة؟ فإن طبقنا عليها معايير الرواية فلن تكون كذلك، كما لم تكن رواية عبدالقدوس الأنصاري رواية، لكن شفع لها السبق، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (22) لكن بعض الباحثين يصر على أنها الرواية الألى، وكيفما اتفق الأمر أو اختلف، فهذا رأي نقبله نظرًا للظرف التاريخي، وأنه حق من حقوق توثيق تلك المرحلة.
أحمد السباعي يغامر بروايته (فكرة) 1947، لخوض التجربة بعد تجربة عبدالقدوس الأنصاري، بسبع عشرة سنة، وهي التجربة التي أشرعت الأبواب على مصاريعها لمن تلاه، زمنًا وفنًا، وهذه الفكرة تحض على التعلم من الحياة، ممثلة في البطلة البدوية ذات العقل المستقل والتجارب الحرة، بينما ابن الحاضرة كان ضعيفًا أمامها، نتيجة لقلة خبرته ونعومة تربيته (23) وهذه التجارب التي يراها بعض الباحثين والنقاد ساذجة يصعب تطبيق مصطلحات الأدب الحديث عليها، من حيث فنيتها آراء متسرعة لم تراع الظرف الزمني في نشأة المجتمعات، وتطورها زمنيًا واجتماعيًا. ولولا طرح تلك الأفكار وغيرها، لما وجدنا أدبًا استطاع أن يشار إليه بالبنان في الوقت الحاضر. ونجد من النقاد غير المنصفين في ذلك الوقت، من وقف وقفة غير منطقية، حتى تدخل كثير من الأدباء لإيقافه عن ذلك النقد غير العلمي، والتعنت غير المبرر، وتصفية الحسابات، على حساب فن جديد في عالم جديد، وسنذكر منهم واحدًا وقف موقفًا متحيزًا، منعه الكتاب والمثقفون من نشر الكتابة ضد تلك الرواية (24) فسافر خصيصًا إلى القاهرة وطبع جريدة من عدد واحد ضد أحمد السباعي وروايته المذكورة. في تلك الفترة وبعد صدور رواية السباعي، بأقل من عام، أصدر محمد علي مغربي، روايته (البعث) 1948، التي طرح فيها مجموعة من أفكاره حول التطوير والتحديث، والابتكار، فيما يخص التجارة التي سيطر عليها الوافدون واحتكروها ولم يلق لها أبناء البلد بالاً، وتفاءل فيها ببعث جديد للأمة العربية وأبناء السعودية بصفة خاصة، ولقيت تلك الرواية رواجًا بين المثقفين واهتمامًا بالغًا، حيث ظهرت بشائر الرواية الحديثة، وقد أشار بعض الباحثين في هذا المجال إلى عدد من الأسباب الحقيقية لتأخر هذا الفن، ومنها:
1- سيطرة الشعر على ما سواه من فنون الأدب.
2- المكانة المتميزة التي يحتلها الشعر والشاعر بين المثقفين.
3- إغفال وسائل النشر للقصة.
4- قلة المهتمين بالفن القصصي كتابة وقراءة.
5- الموقف العام للمجتمع من الفن القصصي في المملكة، وبخاصة في إقليم الحجاز الذي يعد بوابة التواصل مع الإبداعات العربية، ومركز انطلاق النهضة الأدبية في المملكة، وهو موقف سلبي، أسهم في إجهاض المحاولات الأولى.... (25) وهذا الرأي - للأسف الشديد- مخالف للحقيقة، فالفن القصصي، كما أشرنا سابقًا، كان ظهوره ونشره في منطقة الحجاز، قبل الرواية، وقد أجريت عليه بعض الدراسات وأثبتت وجوده وإقبال المجتمع المثقف على قراءته ونقده (26) وهذا قول فيه تعميم، فلو كان في بعض الأقاليم الأخرى ذات الطابع التقليدي لوافقناه عليه. فالأدب والعلوم -بعامة- تشبه حياة الكائنات الحية، فالإنسان يولد، ثم يحبو، ثم يستقيم، وهذه هي الحياة، والمخترعات والفنون، خلق ثم تطور. وبعد أن بدأت ملامح الهوية الوطنية تظهر في الرواية والقصة القصيرة -إلى حد ما- ظهرت عليها بعض الدراسات التي أسست لوجود فن معين، من ضمن الفصيلة الرئيسة للفن، كالرواية والقصة القصيرة، والمقالة الأدبية (27) التي التفت إليها الباحثون في الآونة الأخيرة لما أثبتت وجودها كفن أدبي. وقبل أن نختم هذا الفصل، يجدر بنا أن نشير إلى بعض الجهود التي ثبت هذا الفن من خلالها، في محاولات لوجوده بين ملفات العالم العربي، منذ أن غامر به عبد القدوس الأنصاري، ثم تلاه محمد نور جوهرجي، وأحمد السباعي، ثم محمد علي مغربي، بقصص تقترب من الرواية، وإن كانت في بنائها تقليدية، وما شابهها من القصص الطويلة التي اعتبرها بعض الدارسين رواية، وهي قصة طويلة، لكن لا ننكر أنها من ضمن المشروع الكبير لوجود رواية، بأي حال من الأحوال (28) ونحن كباحثين ندين لتلك الفئة بالفضل لمحاولاتهم، ونغض الطرف عن القياس الفني الحديث، مراعاة للظرف التاريخي الذي يحكم تلك الأعمال، فنيًا واجتماعيًا.
ونختم بأن تلك الأعمال قد أشارت إلى بدايات الفن وهويته، فعندما يتحدث المغربي عن الوافدين في الطائف فإن هذه إرهاصات أولية لوجود البيئة السعودية في النص، من جهة، ولحض أبناء الوطن على استغلال ثروات بلادهم، وعندما يتحدث السباعي عن بعض المفردات البدوية الحجازية، فإن هذه إشارة للبيئة وثقافتها المحلية، منذ القرون الأولى، شعرًا، وحكمة بظهور الإسلام، وعلى الرغم من كل هذا وذاك وما قيل عن عدم وجود الهوية، أو ضبابية الهوية، فإننا نوافقهم في مرحلة البدايات التي أشرت إليها، وهي من 1345- 1350، أما بعد ذلك ففي القول تعميم خاطئ، وقد واكب ذلك بعض المقالات والسجالات بين الكتاب والأدباء حول بعض القضايا، ومنها ما أشرت إليه، سواء كانت أدبية أو علمية، لكننا لا نستطيع سرد بعض الآراء كيلا نخرج من موضوعنا على حساب الباحثين الآخرين في مثل هذا الموضوع الذي يعطي إشارات توضيحية للباحثين في الموضوع نفسه.