د عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
لا ينسى (العقَّاد) و(المازني)- خلال نقدهما شِعر (أحمد شوقي) ونثر (مصطفى لطفي المنفلوطي) في كتابها النقدي «الديوان»- أن يستدعيا مرجعيَّاتهما الغربيَّة، لمحاكمة الشاعر العربي والكاتب، وإنْ كَتَبا الكلمات الأجنبيَّة بحروفٍ عربيَّة، وبعُقدةٍ «خلدونيَّةٍ» قاهرة! فالعقَّاد يعبِّر عن زهوه بآدميَّته، وجَيَشان أعماق ضميره، وهو يُلْقِي بنفسه في غمار الآداب الغربيَّة، جائرًا: «إنَّ المرء ليزهى بآدميَّته حين يُلْقِي بنفسه في غمار الآداب الغربيَّة، وتجيش أعماق ضميره بتَدافع تيَّاراتها، وتَعارض مهابِّها ومتَّجهاتها... ووارحمتاه للكلتور المِصْري!...»!(1) «الكلتور المِصْري»؟! قَصْدُه: Culture. «لازم متعلِّم بَرّا بأه»، على رأي (حسن عابدين)، في مسرحيَّة «شفيء يا راقل»!
وإذا قال (لسنج)، الشاعر الناقد الألماني، مثلًا: «مَن لا يفقد عقله أمام بعض الحوادث فليس له عقل يفقده»، فتلك آيةٌ بيِّنةٌ- في مِلَّة (المازني) واعتقاده- من كَفَرَ بها، كأبي جهلٍ المنفلوطي، فزعمَ أنه صبورٌ على المصائب، فهو إمَّا كاذبٌ، أو لا عقل له، أصلًا! فلقد «قال لسنج، الشاعر الناقد الألماني» ما قال، وما ينطق عن الهوى...!
وهذا المستوى من النقد المستلَب، في «الكلتور المِصْري»، كان يُنعَت بـ«مدرسة نقديَّة»، في مطالع القرن العشرين، سُمِّيت بـ«مدرسة الديوان». ويا لها من مدرسةٍ، ويا له من ديوان!
-2-
وكُلُّ كِتابٍ صادِرٍ مِنكَ وارِدٌ ... إِلَيكَ بِلا رَدِّ الجَوابِ جَوابي!
هكذا قال (الحلَّاج). وهو ما يُمكِن تفسيره بتلك العبارة الدارجة في العامِّيَّة المِصْريَّة: «الحال من بعضه». فما بين المُرسِل والمُرسَل إليه مِن فارق، وعدم ردِّ الجواب يُعَدُّ جوابًا، وبُعدًا لـ(رومان ياكبسون) ونظريَّة التراسل البلاغيِّ والوظيفة التواصليَّة! وتلك بلاغة الصمت، كما عبَّرتْ عنها قصيدتي «لغة القلوب»:
الصَّمْـتُ أَبْلَـغُ مِـنْ كَـلامٍ فـي دَمِــيْ... لـم يَـرْعَـوِ عَـنِّـي ولـم يَـتَـكَـلَّمِ!
وتلك لغة العُشَّاق، وكُتُب المتيَّمين، بعضهم إلى بعض. أمَّا لغة العِلم وكتبه، فشأنٌ آخَر. و«كُلُّ كِتابٍ صادِرٍ» هو أمانةٌ، الأخذ عنه بلا توثيقٍ سرقةٌ صلعاء. فكيف إذا كان قد صدرَ في القرن الخامس الهجري، وقرأه الورَى، من عربٍ وعجم؟! وأيُّ نقدٍ بالسَّطو على كتب النقد؟ وأيُّ مدرسةٍ نقديَّةٍ توثِّق الغربيَّ، وتنتحل الشرقيَّ.
لقد كان (العقَّاد) و(المازني) يوثِّقان عن الأوربيِّين كلَّ شاردةٍ وواردة، ولو كان طُرفةً مذكورةً في جريدة، ويباهيان بتكرار أسماء الأوربيِّين، بمناسبةٍ وبغير مناسبة. غير أنهما لا يفعلان بعض ذلك حيال الثقافة العربيَّة والتراث العربي؛ بل يكادان لا يعترفان بالعودة إلى مرجعٍ عربيٍّ. وإذا عادا، اقتصَّا الكلامَ بلا توثيق! ها هو ذا المازني، مثلًا، يأخذ عن (عبد القاهر الجرجاني، -474هـ= 1081م) كلامًا مشهورًا في كتابه «دلائل الإعجاز»(2)، منه قول عبد القاهر: «ومن المعلوم أنْ لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها [أي الوصف بالفصاحة والبلاغة]، ممَّا يُفْرَد فيه اللَّفظ بالنعت والصِّفة، ويُنْسَب فيه الفضل والمزيَّة إليه دون المعنى، غير وصف الكلام بحُسْن الدِّلالة وتمامها فيما له كانت دِلالة، ثمَّ تبرُّجها في صورةٍ أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحقّ بأن تستولي على هوَى النفس».
ومنه قوله: «هل يُتصوَّر أن يكون بين اللفظتَين تفاضلٌ في الدِّلالة حتى تكون هذه أدلَّ على معناها الذي وُضِعت له من صاحبتها على ما هي موسومةٌ به؟»
أو قوله: «إنَّك إذا فرغتَ من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فِكْرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتَّب لك؛ بحُكم أنها خدمٌ للمعاني وتابعةٌ لها ولاحقةٌ بها، وأنَّ العِلم بمواقع المعاني في النفس عِلمٌ بمواقع الألفاظ الدالَّة عليها في النُّطق».
يأخذ ذلك (المازني)(3)، مختزلًا، في نقد «أسلوب المنفلوطي»، فيقول: «ومعلوم أن الكلام لا قيمة له من أجل حروفه؛ فإن الألفاظ كلَّها سواء من حيث هي ألفاظ، وإنما قيمته وفصاحته وبلاغته وتأثيره تكون من التأليف الذي تقع به المزيَّة في معناه، لا من أجل جرسه وصداه... وأن المرء يرتِّب المعاني أوَّلًا في نفسه ثمَّ يحذو على ترتيبها الألفاظ...».
لكنَّه لا يوثِّق كلامه عن كتاب (الجرجاني)، غيرَ معترفٍ به ولا مشيرٍ إليه من قريبٍ أو بعيد، وكأنَّ ما أورده حول الأسلوب انقدحَ من بنات أفكاره هو، لا من نصٍّ للجرجاني، قبل أكثر من ثمان مئة سنة! ونحن نعزو هذا الأخذ غير الموثَّق إلى (المازني) تحديدًا؛ لأن الموضوع ذُيِّل بتوقيعه.
تلك بعض ملامح ما سُمِّي بـ«مدرسة الديوان»، أو بالأصح: (مدرسة العقَّاد والمازني)، غير العِلْميَّة.
... ... ...
(1) (د.ت)، الديوان في الأدب والنقد، (القاهرة: الشعب)، 121.
(2) (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 43- 44، 54.
(3) م.ن، 103- 104.