في الحلقة الثالثة من دراستنا عن «الخالدون في الرواية» نتحدث عن الروائي الأمريكي وليم فوكنر (William Foulkner 1897 -1962) ورواياته خصوصاً رواية «الصخب والعنف» (The Sound and the Fury 1929) والتي تميزت في أسلوبها ولغتها وتقنياتها الفنية الرائدة في حقل السرد الروائي.
يمثل وليم فوكنر الضلع الرابع من أضلاع تقنية سرد تيار الوعي في الرواية العالمية الحديثة مع مارسيل بروست وجيمس جويس ووفرجينا وولف، وهم يمثلون إرهاصات الحداثة الغربية في فن الرواية، وتتنوع المؤثرات عليهم ما بين الالياذة والاوديسة وألف ليلة وليلة وتأثير بعضهم على بعض، كما أثر كل من بروست وجويس على وليم فوكنر كما سنرى.
نقل فوكنر مستوى الرواية الأمريكية البسيطة عند ارنست همنجواي Ernest
(Hemingway 1899 - 1961 م) إلى رواية حداثية جديدة في المضمون والشكل، لتساهم الولايات المتحدة الأمريكية في حداثة أدبها السردي مع الأدب السردي الأوروبي خصوصاً الأدب الحداثي الفرنسي (م. بروست) والايرلندي (ج. جويس) والانجليزي (ف. ووالف)
يقول عنه صديقه الروائي الفرنسي البير كامو (Albert Camus 1913 - 196):
«إن أقل ما يقال عن هذا الكاتب أنه رجل أمسك بسر الأدب وجعل لأمريكا أدباً تجابه به الأدب الأوروبي» (1)
في روايته «الصخب والعنف» الحاصلة على نوبل 1949 يجسد هذا الأسلوب التقني الذي تميز به في أكثر من رواية، بل تفوق باتفاق العديد من النقاد والروائيين العالميين، ويمثل أسلوبه سر خلوده في الرواية العالمية وتقنيات لغته التي اتبعها في العديد من رواياته، حيث يجعل كل بطل يسرد أفكاره بشكل تيار وعي أو تداعي حر، بلغة جميلة وثرية آسرة.
«الماضي لا يموت، بل أنه ليس حتى ماضيا»
- وليم فوكنر
حياة وليم فوكنر
ولد وليام كاثبيرت فوكنر William Cuthbert Faulkner في مدينة البني الجديدة في المسيسبي، الولايات المتحدة الأمريكية في 25 سبتمبر 1897، تعثر في بعض مراحل دراسته الثانوية والجامعية لكنه عوض عن ذلك في القراءة الجادة والموسعة ودرس في جامعة فرجينيا في مسيسبي ما بين 1919 - 1921.
وعمل في عدة وظائف منها كاتب سينمائي لسنوات في هوليوود في الفترة من عام 1932 حتى عام 1945.
كتب قصص قصيرة وأشعار وروايات ومقالات ونصوص سيناريو لسينما هليود، ويمثل في كتاباته الحداثة الأوروبية، حيث تأثر بكل من فولبير وبلزاك وجويس وبروست وغيرهم، كما تعلم اللغة الفرنسية ليستمتع بأشعار شعراء فرنسا الحداثيين أمثال بودلير وفيرلين وملارميه، وقد أصدر في بداياته ديوان شعر بعنوان اله المرعى المرمري The Marble Fau 1924.
أبرز أعماله القصصية والروائية
تنوعت أعمال فوكنر ما بين مجموعات قصصية وأعمال روائية، ومن أهمها:
(رواية راتب الجندي Solderms Pay 1926. وروايته الثانية «البعوض Mosquitoes 1927»، ورواية «ساراتوريس Sartoris 1928»، ورواية «الصخب والعنف The Sound and the Fury 1929»، ورواية «بينما ارقد محتضره As I lay Dying 1930»، ورواية «الملاذ Sanctuary 1931»، ومجموعة قصص عام 1931 منها «وردة لاميلي Arose for Emily والأوراق الحمرا Red Leaves وشمس ذلك المساء That Evning Sun وسبتمبر الجاف Dry September» وهي تحكي عن منطقة يوكاناياتوفا المتخيلة ورواية «نور في آب Light in August 1932»، وديوان شعر (As Green Bough 1933) ورواية «ابشالوم! ابشالوم ! Absalom ! Abaslom ! 1936»، ومجموعة قصص «اهبط يا موسى Go Down Moses 1942». ورواية «الدب TheBear 1942» ورواية «حكاية خرافية Afable 1945»، ومجموعة قصص رعب «فارس الليل Knight›s Gambit 1949» وله روايته الثلاثيته الضخمة: (The Hous 1940) و«القرية» (The Town 1957)، و«البلدة» (The Mansion1959)، وقد وظف فيها بيئة الجنوب الأمريكي من خلال خبراته وقدم صوراً مختلطة للجنوب الأمريكي بين المآسي المتعددة والمرح والفكاهة والعلاقات الدافئة وهي يسبر حياة صعود عائلة آل سنوبس «Snopes» في السلم الاجتماعي وحصل فوكنر على جائزة نوبل في الأدب عام 1949 عن روايته «الصخب والعنف»، كما حصل على جائزة بوليتزر عام 1954 على رواية حكاية خرافية وهي أطول أعماله، كما فاز بنفس الجائزة عام 1962 على روايته «الناهبون» The Reivers.
تزوج صديقته من الطفولة السيدة استل اولدم Estelle Oldham عام 1929.
وتعتبر فترة منتصف الخمسينات أسعد فترة في حياته قضاها كاتباً مقيماً في جامعة فرجينيا بالقرب من ابنته وأحفاده. وتوفي فوكنر في 6 يوليو 1962. (2)
خصائص فوكنر ومزايا أسلوبه الروائي
تمثلت خصائص وليم فوكنر كروائي بأنه كتب عن العنصرية والتفرقة في مجتمعه من خلال هضمه لتاريخ الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وهوسه في الدفاع عن قيم الجنوب الأمريكي ومعاناتهم خلال الحرب الأهلية المدمرة للبشر والقيم والكرامة الإنسانية التي تبناها في معظم أعماله الروائية ودافع عنها من خلال تقمص نماذج من شخصيات الجنوب كأبطال لرواياته وقصصه.
كان فوكنر يسعى إلى تسليط الضوء على بشاعة واقع المجتمع في مقابل قيم الجمال التي كان يدعو لها مثل: الحب والشرف والشفقة والكبرياء والتضحية.
كما تميز أسلوبه بالإبداع اللغوي وبراعته في تقنيات المنولوج الداخلي وتطوير حبكة جديدة وزمن متشابك وتوليد أفكار وصور واقعية ثرية واكتشافه لعالم خيالي جديد تمثل في مقاطعة يوكاناياتوفا باعتبارها مسرحاً لأعماله الروائية.
تقول موسوعة الوكيبيديا wikipedia عن أسلوبه وتقنياته السردية في روايتي الصخب والعنف، وأرقد محتضره:
(The Sound and the Fury and As I lay daying Make use of Modernist techniques such as unreliable narrators and stream -of- consciousness narration». (3»
مقاطعة يوكاناياتوفا مسرح لأعماله الروائية
مقاطعة يوكاناياتوفا Yoknapatawpha هي منطقة متخيلة ابتكرها فوكنر لتكون مسرحاً للأحداث الأساسية في رواياته، وهذه المنطقة ترتبط بقوة - كما يرى النقاد ودارسي أدبه - بالأماكن التي عاش فيها، والبشر الذين عرفهم، وتعتبر عائلة فوكنر لها تأثير في تاريخ ولاية المسيسبي، لأن أحد أجداده كان النموذج الذي صاغ على غراره شخصية جون ساراتوريس J. Sartoris في بعض رواياته، وكان محامياً وجندياً ورساماً وشاعراً وروائياً ومشاركاً في بناء سكة الحديد.
كما نشأ فوكنر في كنف عائلة متأثرة بالتقاليد والعادات والقصص المحلية والحكمة، والفكاهة الشعبية الريفية، والروايات البطولية والمآسي عن الحرب الأهلية الأمريكية.
وتعتبر حياة وأعمال فوكنر الروائية سجل وشهادة له على التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على الجنوب الأمريكي.
نهم القراءة وشغف الكتابة
يروى عن فوكنر أنه «كان قارئاً نهماً، كما أبدى رغبة وشغف في الكتابة منذ مراهقته، والتزم بحياة الكاتب، حيث اعتاد أن يخط بيده كتباً مزينة بالرسوم التوضيحية يوزعها على أصدقائه، ومن بينها دواوين شعر ومسرحية واحدة، وقصص وحكايات للأطفال». (4)
ولم تقتصر حياة فوكنر على الريف الجنوبي الذي صاغه في النهاية على هيئة يوكناباتوفا، فقد تلقى تدريباً كطيار مقاتل في سلاح الجو الملكي الكندي في تورنتو خلال الحرب العالمية الأولى.
واستوعب التأثيرات الحداثية التي كانت تغير وجه الفن والأدب في القرن العشرين، ففي أواسط العشرينات، عاش بين الكتاب والفنانين في الحي الفرنسي في مدينة نيواولينز بولاية لوزيانا، يقول عنه الروائي والناقد الفذ جبرا إبراهيم جبرا «يبدو أن فوكنر الشاب، وقد سئم الدراسة الجامعية، وحاول نظم الشعر، وتسكع ماشاله التسكع في نيواورليانز، والحي اللاتيني في باريس، وبلدته الصغيرة أكسفورد (مسيسبي)، كان يتشرب هذه التأثيرات على مهل، ويروى المحدثون كيف كان يتمشى في شوارع أكسفورد في تلك الأيام مفلساً، حافياً، غير حليق الذقن، يجلس القرفصاء في مدخل أحد الدكاكين حاملاً المجلات ويقرأ، أو يستمع إلى حديث الناس وثرثرة الزنوج، وأسطورة الجنوب تتبلور في ذهنه (5)
وحظيت كتاباته القصصية هناك بالتشجيع خاصة من قبل الكاتب الأمريكي شرودر اندرسون S. Anderson والذي شكل عمله واينزبري أوهايو Winesburg ohio عماد الحداثة الأمريكية، وكان فوكنر قد جاء إلى نيواوليانز بعد أن صدر ديوانه الفاون أو اله المرعى المرمري عام 1924 . وهناك أتم روايته الثانية «البعوض» عام 1927 ، وهي تحكي عن حياة بوهيمية كان فوكنر قد رصدها ساراتوريس في نيواوليانز، وبعد سفره إلى الخارج عاد إلى أكسفورد حسب نصيحة اندرسون ليبدأ عقداً لائقاً في الكتابة، وكانت روايته ساراتوريس عام 1928 أول اكتشاف كبير لمقاطعة يوكنايا توفا التي ظل يطورها قصصياً في الأربعة والعشرين عاماً الأخيرة.
رواية الصخب والعنف
تحكي رواية «الصخب والعنف The Sound and The fury» عن بيئة الجنوب الأمريكي وتتحدث عن سيرة أحداث حياة ثلاثة أبناء من أسرة جنوبية، وهم:
(كونتن quentin)، وجاسن Jason ، وبنجامين (بنجي Benjy) مع أختهم كاندس (كادي Candace) وابنتها كونتن.
كتبها فوكنر على شكل سيمفونية يعزفها الإخوة أو يتغنون، أو ينعون بما حدث لهم، حيث إنهم مصابون بحالة هيستريا، من خلال تواتر الأحداث والظروف في إيقاعها المتدفق، والمتلاحق وما يحدث فيها من ضجيج وعنف، وقد عمد الروائي فوكنر إلى استخدام أسلوب المونولوج الداخلي الذي يتيح لكل شخص أن يعبر عن تيار وعيه.
أبطال الرواية:
1- بنجي، بتاريخ 7 ابريل (نيسان) 1928.
2- كونتن، يحكي بتاريخ 2 يونيو (حزيران) 1910.
3- جاسين، يحكي بتاريخ 6 ابريل (نيسان) 1928.
4- الروائي فوكنر، يحكي بتاريخ 8 ابريل (نيسان) 1928.
والرواية تصور حياة وانحلال أسرة آل كمبسن Compson ويسقطها فوكنر على الانحلال العام في «الجنوب الأمريكي أثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب».
وفي الحلقة القادمة سوف نتحدث عن جماليات السرد في رواية الصخب والعنف الذي جعلها من الروايات الخالدة.
** **
- ناصر محمد العديلي