د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الإنسان المنتصر الذي استطاع أن يقضي أو كاد أن يقضي على الأوبئة القاتلة حتى لم يعد هناك وباءٌ واحد فتاكاً، لأن الإنسان أصبح قادراً على أخذ الاحترازات اللازمة للحد من انتشاره، إذا كان الوباء جديداً لم يوجد له الإنسان مصلاً بعد.
من أعمارهم فوق الخمسين أو نحوها رأى بعضهم وباء الجدري والسل والوباء الكبدي وغيرها، ومن قبلهم بسنين محدودة شاهدوا أعداد هائلة ممن أبادهم الطاعون، والكوليرا وغيرها، ومن قبلهم بعقود رأى من نجا منهم أعداد مهولة من الموتى بالإنفلونزا الإسبانية وغيرها، ومن قبلهم بقرون وأراد الله له البقاء شاهد الطاعون الأسود يحصد نصف أوروبا، وقبل ذلك بكثير ظهر وباء الأباطرة في العقد الثاني للميلاد، والذي ذكر أحد المؤرخين أنه كان يقضي على ألفي شخص في اليوم، وإذا افترضنا أن وسائل الاتصال والتواصل كانت محدودة في ذلك الزمان، فإن معدل الوفيات ربما كان أكثر بكثير مما ذكر.
المستكشفون، أو إن شئت الباحثون عن الذهب، والمتزمتون الساعون إلى نشر الكاثوليكية من إسبانيا ما بعد سقوط غرناطة، ساروا بسفنهم نحو الغرب، معتمدين في خرائطهم ومساراتهم على البحارة المورسكيين مسلمي الديانة سابقاً، والمتنصرين إجباراً، أو خوفاً أو طمعاً، أو أولئك الذين بقوا على دينهم، في عهد الملكين الكاثوليكيين، فرناندو وإيزبايلا، ومن بعدهم بقليل، قبل صدور قرارات الإجبار، ومن ثم الطرد ونشروا الكثير من الأمراض في العالم الجديد.
في عام 1519 ميلادية، وهو زمن قريب من سقوط غرناطة عام 1492 ميلادية، أبحر أحد المغامرين الإسبان بسفينة صوب العالم الجديد أمريكا، ليجد نفسه في المكسيك حاملاً أمراضاً وأوبئة لم يكن لها سابق وجود في تلك الأرض المعزولة، وكان عدد سكان المكسيك في وقت حلول المستكشفين خمسة وعشرين مليوناً تقريباً، وإذا بوباء الجدري المحمول مع القادمين الجدد، يتخلل أجساد المكسيكيين الأبرياء، فيجد هذا الوباء أجساداً لم تألفه، ولم تبنَ من الأجسام المضادة ما يقاومه، فأخذ هذا الوباء يحصد أرواح كل من حل به، فمات في خلال سنتين ثمانية ملايين نسمة طبقاً لمؤرخي ذلك الزمان، وبعد قرن من الزمان، تسابقت الأوبئة والأمراض على تلك الأجساد النظيفة الصافية التي لم تعهد مثلها، فتهاوت بسهولة بينما بقيت أجساد أولئك القادمين المستعمرين تحمل خلاياهم الأجسام المضادة التي أنتجتها خلاياهم البيضاء، عبر آلاف السنين فأصبحت تتعرف على الشفرة الجينية لبعض الأوبئة.
ولهذا فقد أخذ المرض يفتك بالسكان الأصليين الأبرياء ويسبق السيوف والبنادق، ولم يعد في المكسيك سوى مليوني شخص من عدد سكان يقدر بخمسة وعشرين مليوناً.
الإنسان اليوم استخدم ذكاءه ليستفيد من الطبيعة والفيزياء بقوانينها، والكيمياء بفروعها المعدنية والحيوية، ومستخدماً أدوات مثل الرياضيات ليصنع أجهزة تمكنه من إيجاد الحلول لمعظم ما هو مستعصٍ، ولم يعد هناك وباء فتاك، لكنها أوبئة يمكن التعامل معها. وفيروس كورونا لم يستطع أن يحصد أرواحاً كثيرة، بل أمكن دحره، وما ناله هذا الفيروس من الإنسان لم يكن سوى نسبة لا تذكر، وحتى في بؤرة المرض الصين فإن من استطاع النيل منهم لا يمكن ذكره في دولة يقرب عدد سكانها من مليار ونصف المليار.
ما زال هنا على الأرض وباء حقيقي فتاك قاسٍ لم يستطع الإنسان النيل منه، وهو القتل وإثارة الفتن والحروب وصنع القنابل والطائرات التي تقضي على الإنسان لا لسبب يذكر سوى الطمع والجشع وإجلال الكرسي الوثير، أو المال الوفير، أو هما معاً، أو الفكر الشرير الذي يسوق الناس إلى الهلاك باسم الدين أو المذهب أو اللون أو الأصل وكذلك الحقد الدفين، واجترار التاريخ لينساق الرعاع، وتذهب العقول.
يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق» وقبله موسى عليه السلام والمسيح عليه السلام، ومن سبقهم من الأنبياء عليهم السلام، وكذلك المفكرون إنما جاؤوا جميعاً حاثين على مكارم الأخلاق، فأين الإنسان من المعدل والمحبة والتسامح؟.. سيظل الإنسان معرضاً لوباء الحروب القتالة التي يصنعها هو ليبيد عدداً كبيراً من جنسه والأجناس الأخرى من الشجر والطيور والحيوان، طالماً أنه لم يتخلَ عن أنانيته ولم يزرع الحب والرحمة في قلبه.