د. عبدالحق عزوزي
الأعمار والأقدار والبلايا والأمراض كلها بيد الله، والإيمان بذلك من الواجبات، ولن يغني في الواقع حذر من قدر، ولكن لما كانت الأقدار غير معروفة لدينا، جاز للإنسان اتخاذ أسباب الوقاية من المكاره، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها والحذر من المهالك، قال الله تعالى: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} (سورة النساء 71)، {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (سورة البقرة 195) ومن هنا نفهم شرعية وعقلانية الإجراءات التي اتخذتها الدول عندما أغلقت المطارات والحدود والمدارس والجامعات وأماكن العبادة وغيرها لإيقاف انتشار فيروس كورونا. وروى الأئمة واللفظ للبخاري من حديث عامر بن سعيد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع (ورد الحديث في البخاري في كتاب الحيل بلفظ الوجع، وفي كتاب الطب بلفظ الطاعون)، فقال: «رجز أو عذاب عذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض، فلا يقدمن عليه، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارا منه». ويحكى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، كان ذاهبًا إلى بلاد الشام، وكان معه بعض الصحابة. وفي الطريق علم أن مرض الطاعون قد انتشر في الشام، وقتل كثيراً من الناس، فقرَّر الرجوع، ومنع من معه من دخول الشام. فقال له الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ فرد عليه أمير المؤمنين: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! ثم أضاف قائلاً: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن لك إبلاً هبطت وادياً له جهتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جديبة، أليس لو رعيت في الخصيبة رعيتها بقدر الله، ولو رعيت في الجديبة رعيتها بقدر الله؟»، وهذا الطاعون المشار إليه هو طاعون عمواس أحد امتددات طاعون جستنيان وهو وباء وقع في بلاد الشام في أيام خلافة عمر بن الخطاب سنة 18هـ «640 م» بعد فتح بيت المقدس. وإنما سُمي بطاعون عمواس نسبة إلى بلدة صغيرة في فلسطين بين الرملة وبيت المقدس، وذلك لأن الطاعون نجم بها أولاً ثم انتشر في بلاد الشام فنُسب إليها. قال الواقدي: «توفي في طاعون عمواس من المسلمين في الشام خمسة وعشرون ألفاً»، وقال غيره: «ثلاثون ألفاً». من أبرز من ماتوا في الوباء أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان. عُرفت هذه السنة بعام الرمادة للخسارة البشرية العظيمة التي حدثت فيها.
وقلنا إنه أحد امتدادات طاعون جستنيا، لأن هذا الأخير وباء ضرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو الإمبراطورية البيزنطية، بما في ذلك العاصمة القسطنطينية، في أواخر المنتصف الأول من القرن السادس الميلادي، وعاود الظهور على دفعات حتى العام 770 م، « فيذهب المرة ويأتي الأخرى». والسبب الأكثر ترجيحاً عند المؤرِّخين هو مرض الطاعون الدملي، والذي سيتسبب في وباء آخر سيسمى الموت الأسود في القرن الرابع عشر، وأطلق المؤرِّخون المعاصرون على هذا الوباء اسم الإمبراطور جستنيان الأول، الذي كان يحكم الإمبراطورية البيزنطية أثناء حدوث الطاعون.
وفيروس كورونا اليوم لا يفرِّق بين صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير ولا رئيس ولا مرؤوس ولا بين القلاع الآمنة ولا الأكواخ ولا بين المدن ولا الدول ولا القارات ...، فأينما كانت أسباب العدوى حاضرة وإلا فالفيروس يجد مأوى له؛ والله وحده الخالق المتصرِّف في الكون يعلم كم سيطول هذا الوباء العالمي وكم سيترك وراءه من الموتى في دول المعمورة.
تنبأ عدد من الأفلام الهوليودية بفيروسات وأوبئة تجتاح منطقة أو مناطق أو العالم وتثير الرعب والهلع كفلم Contagion وهو أقرب الأفلام إلى سيناريو ما يحدث اليوم بسبب فيروس كورونا. ويحكي الشريط قصة امرأة تعود إلى مينيسوتا مصابةً بمرض غريب بعد رحلة إلى هونغ كونغ. تموت في غضون أيام تاركة زوجها في حالة صدمة، قبل أن يبدأ الآخرون في الشكوى من الأعراض نفسها مع انتشار المرض في جميع أنحاء العالم؛ وهناك أفلام أخرى مثل فيلم The Omega Man وفيلم World War Z وفيلم Pandemic وغيرها ولكن لما تقارنها بدقة مع ما يجري اليوم من واقع فيروس كورونا فلا أحد من مخرجي أفلام السينما أصاب في خياله الفني، كما لا أحد من الإستراتيجيين قراء المستقبل تنبأ بهذا كله، ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه ترجع الأمور.