أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الحب الحزمي الظاهري لا غير؛ ودعك من الحب العذري الذي يقصر عن منال أبي محمد، والحب الحسي، وذلك غير مفهوم إلاَّ بدفق الشهوة؛ وفي الأمثال المحنكة: (والحب إن تنكحه فسد)، والحب الأفلاطوني؛ وهو أحلام ليل وردت عن الحكم بأن حياة البشر تنتهي بأحلام مشتركة بينهم تنتهي بها الحياة؛ وهذا افتراء وافتيات على فريق في الجنة وفريق في السعير بعد أن يحكم الله بين البشر، ويضع كل فرد في موضعه من أصحاب الجنة وأصحاب السعير.. وذكروا (الحب الصوفي)؛ وذلك أحلام ليل يا أم عمر؛ فلا حب صوفي في يوم القيامة؛ وإنما هما أمَّتان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
قال أبو عبدالرحمن: زعم المتسرعون: أن الحب عاطفة مشتركة بين جميع البشر، وليس فكراً تتعدد فيه المدارس؛ ولكن الملاحظ ظهور ما يشبه المدارس الفكرية في الحب؛ وهذا من العجب العجاب!!؛ فثمة الحب العذري، والحب الحسي، والحب الأفلاطوني، والحب الصوفي، ووو.. كثير من الواوات؛ وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعضهم حين تحدث عن انتقال ألوان من الحب من اليونان إلى الشرق، وتحدث آخرون عن ارتباط ألوان من الحب بأجناس بشرية خاصة، وكأنها لا ترتبط بعاطفة إنسانية مشتركة بين البشر؛ والواقع أن كتب التراث العربي التي تحدثت عن الحب: لم تبلور مفهوماً واضحاً لهذه العاطفة الإنسانية؛ بل تناولت الحب ابتداءً من وصف العشاق العفيفين؛ والعشاق الماجنين؛ ثم من مرَّ ذكرهم آنفاً ممن ذكر ارتباط ألوان الحب بأجناس بشرية في قضايا حسية ترتبط بالعلاقة الجنسية والعقاقير المنشطة للجنس؛ انظر على سبيل المثال: (محاضرات الأدباء)، لـ(الراغب الأصفهاني)، الحد الثالث عشر تحت عنوان: (في الغزل وما يتعلق به)، و(التمثيل والمحاضرة)، لـ(الثعالبي)، من أمثال سائرة وأبيات شاردة عن النساء والعشاق، و(نهاية الأدب) لـ (النويري)؛ إذ نجد في الجزء الثاني عشر منه اهتماماً واضحاً بالأدوية والأطعمة المقوية للشهوة.. والأفظع من ذلك ما أوردته بعض كتب التراث من قصص عشاق الغلمان، ونسبته غالباً إلى المتصوفة.. انظر (السراج، أبو محمد القارئ مصارع العشاق)، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ ج 2، ص292، وهذا الخلط هو الذي أوحى إلى بعض المستشرقين فكرة حسية الحب في التراث العربي؛ ومهما تعددت الآراء في الحب؛ فأعتقد أن ما قيل وما كتب عن الحب لا يخرج عن هذه الأمور: إما حديث عن علاقة حب بين جنسين لا يرتبطان جسدياً، ويظل العاشق في لوعة وحرقة تجاه المحبوب، وهو الذي يسمى بالحب العذري، أو الأفلاطوني، وإما حديث عن حب صوفي يعبر فيه العاشق عن حبه لله والفناء فيه، وإما حديث عن غريزة جنسية تحرك الإنسان في اتجاه معين كما تحرك سائر الحيوانات الأخرى، مع فارق بين حياة الإنسان وحياة سائر الأحياء، وإما حديث عن شعور يلتهب في وجود الفرد يدفعه إلى الجمال في كل شيء من جمال الإنسان، وجمال النفس الإنسانية وخصالها الكريمة إلى جمال القيم الإنسانية.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد أسهبوا في تعليل أنواع الحب؛ فقالوا: الحب العذري لا ينسجم مع طبيعة الإنسان؛ لذلك لم يذكره (ابن حزم في كتابه)، وأما في الأدب الفارسي؛ فالعلاقة بين مجنون وليلى علاقة ترمز إلى انجذاب الإنسان نحو الجمال، كالعلاقة بين الزهرة والبلبل كما يأتي، وليست علاقة حب مقرونة بالحرمان واللوعة، والفراق.. والحب الصوفي إذا كان المقصود به حب الجمال المطلق؛ فذلك عندهم باعتبار أن الله سبحانه وتعالى هو الجميل المطلق.
قال أبو عبدالرحمن: هذه صفة ربنا سبحانه وتعالى التي تفرد بها، وقبح الله من كذب وافترى في دعواه التقاء صفة الرب سبحانه وتعالى مع النظرية الجمالية للحب، وإن لم يكن كذلك: فليس من مقولة الحب؛ بل هو أقرب إلى الرياضيات النفسية والروحية.. وحصر الحب في الغريزة الجنسية، وإن كان يلامس واقع الإنسان؛ لكنه يلامس جانب الواقع البهيمي، أو الطيني بالتعبير القرآني للكائن البشري، ويجهل الجانب الروحي المتسامي منه الذي عبر عنه القرآن بالروح الإلهية.. والنظرية الجمالية للحب هي التي تناولها بالتفصيل الغزل الفارسي، والملاحظ في الأدب الفارسي أن کلمة (الحب) غير موجودة؛ بل يوجد مکانها کلمة (عشق)؛ والعشق في الأدب الفارسي لا يعني إلا الشعور الملتهب الذي أشرت إليه، والغزل الفارسي لا يخرج عن هذا الإطار.. مصدرهم ما لم يتح لي الاطلاع عليه؛ وهو (شميسا، سيروس)، (سير غزل در شعر فارسي)، ط1 طهران، 1362 هجرياً. ش، ص 2.
قال أبو عبدالرحمن: الجنون فنون؛ ولهذا حديث يأتي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى، فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.