محمد سليمان العنقري
الأزمة المالية التي اندلعت قبل اثني عشر عاماً برغم ما خلفته من كوارث إلا أنها تركت دروساً ستبقى حاضرة في العالم ويتم الرجوع لها عند الضرورة بل إنها أسهمت برفع التخطيط الاستباقي للتعامل مع أي أزمة بالمستقبل وفي هذه الأيام يعيش العالم نوعاً مختلفاً من الأزمات سببها تفشي وباء الكورونا الذي تسبب بتعطيل العديد من الأنشطة على مستوى العالم خصوصا بقطاع الطيران والسياحة وأثر على البورصات العالمية بانهيارها وكذلك أسواق السلع وعلى رأسها النفط، إلا أن طبيعة هذه الأزمة مختلفة عن سابقتها ولا يمكن «حتى اللحظة» مقارنتها بها فأزمة 2008 غير مسبوقة من حيث حجمها وتأثيرها البالغ على القطاع المالي عالمياً مما كان سينذر بانهيار اقتصادي عميق جداً لولا تدارك الأزمة بسلة حلول بلغ حجمها ما يفوق 10 تريليونات دولار أميركي وفق بعض الإحصاءات العالمية.
ولذلك ما زال من الصعب تكرار تلك الأزمة نظراً لأنها كانت نتيجة عوامل عديدة أهمها الخلل الكبير في تنظيم القطاع المالي عالمياً وضعف الرقابة عليه مما أدى إلى نشوب الأزمة منه حيث أفلست بنوك عريقة مثل ليمان براذرز واختفت أخرى نتيجة الاستحواذ عليها أو تأميمها في دول مثل بريطانيا كما أنه يكفي التذكير بوضع شركتي الرهون العقارية فاني ماي وفريدي ماك الأمريكيتين حيث كانتا على وشك الإفلاس مما سيقصم ظهر النظام المالي عالميا وليس بأمريكا فقط حيث كانتا تستحوذان على 50 % من حجم الرهون العقارية بقيمة تقدر بأكثر من 3 تريليونات دولار أي أكبر من اقتصاد «إيطاليا وروسيا» مجتمعتين، وهو ما يدلل على الفرق بين الأزمة الحالية الطارئة في وضع معقول جداً للاقتصاد العالمي يختلف عن الأزمة السابقة بنواحي عديدة، لكن الملفت في أزمة كورونا هو سرعة تحرك الدول للتصدي لتداعياتها فأزمة 2008 فعليا بدأت قبلها بعام وتأخرت الحلول الجذرية منذ أن بدأت علاماتها بالظهور ببداية 2007 حتى نهاية العام 2008 وتوجت بأول قمة لمجموعة العشرين بأمريكا مع خطط حلول ضخمة عالمياً.
ففي الأزمة الحالية وبعد بدايتها بحوالي الشهرين تحركت الدول الكبرى بإجراءات عديدة مثل خفض أسعار الفائدة وتقديم حزم مالية لدعم الاقتصاد والأسواق ففي المملكة أعلن عن حزمة من مؤسسة النقد بمبلغ 50 مليار ريال لدعم القطاع الخاص بمبادرات عديدة تخفف الأعباء عنه وفي أميركا خفضت أسعار الفائدة لمستوى يقارب الصفر وقدم برنامج تيسير كمي بقيمة 700 مليار دولار كما قامت بريطانيا بخفض أسعار الفائدة وضخ سيولة بالأسواق وحددت ألمانيا مبلغ 500 مليار يورو للتصدي لتداعيات كورونا وسارت دول أخرى كاليابان وفرنسا وإيطاليا على ذات النهج وكانت الصين قد سبقتهم جميعا كونها موطن الفايروس بحزم تمويل ودعم متنوعة وكبيرة بالإضافة لدولة الإمارات التي خصصت 100 مليار درهم لتجاوز تداعيات كورونا، مما يدل على سرعة التحرك دولياً لاحتواء الأزمة وإعادة النمو بالاقتصاد العالمي لمساره الطبيعي بعد انحسار موجة العدوى بالمرض فقد وصف وزير الخزانة الأمريكي بأنها أزمة في 2020 ولن تتكرر مطمئناً أن الوضع الاقتصادي قوي وسيستمر النمو على المدى الطويل فهذه التدخلات سيكون لها أثر مباشر وسريع التأثير في الأسواق والاقتصاديات عموما خصوصا بعد أن تنحسر موجة العدوى للفايروس وفقاً للإجراءات الصارمة التي تتخذها الدول لمنع التجمعات وكل ما من شأنه أن يساعد على الحد من انتشار العدوى بقصد احتوائها حتى تتلاشى تماماً، وما حدث بالصين من تراجع حاد بالإصابات وعودة الأعمال لطبيعتها تدريجيا وكذلك نجاح كوريا الجنوبية حتى اللحظة بتناقص سريع بالإصابات يعطي إشارة مطمئنة أن تطبيق قواعد صارمة بالدول تحد من العدوى سيعجل بوقف تفشي الفايروس وعودة الحياة عالميا لطبيعتها بوقت لن يطول.
دروس 2008 يبدو أنها أفادت كثيرا في التصدي لهذه الأزمة حتى اللحظة رغم أنها طارئة ومفاجئة ومع عدو مجهول.
والأسابيع القليلة القادمة ستثبت ما إذا كان العالم تعاطى مع هذا التحدي المباغت بالحجم المناسب وكيف سيتم تعويض النمو الاقتصادي الذي تأثر بالربع الأول الحالي سلباً فبما أن هذه الأزمة لم تمس أو تنبع من عمق الاقتصاد العالمي خصوصا النظام المالي كما حدث بالأزمة السابقة فيمكن القول إنها أزمة يمكن استيعابها وتجاوزها خصوصاً مع التحرك المتوقع من الدول الكبرى لاتباع سياسات مالية تحفيزية تضاف للسياسات النقدية المعلنة مع ضرورة قياس التطورات اقتصادياً بمدى القدرة على تحجيم المرض وانحسار تفشيه عالمياً بأقصر وقت ممكن.