وحدة الأبحاث الاقتصادية - «الجزيرة»:
فيروس كورونا يختلف عما سبقه من فيروسات أو جانحات صحية، فهو ليس كجانحة يمكن الحماية أو تجنبها من خلال تجنب العدوى، كما أنه لم يعد مرتبطا بمكان أو منطقة أو حتى دولة ولا حتى قارة معينة، بل أصبح بمثابة وباء عالمي، بات ينتقل من دولة لأخرى بسهولة البرق، كما أن كل التقارير الصحية تشير إلى وجود صعوبات وتعقيدات في مكافحة الوباء نظرا لاختلافه وتطوره من شكل لآخر ووجود أطوار متعددة له.
بل الشاهد أن الفيروس قادر على أن يتحدى أجهزة المناعة في كل الأفراد ويدخل معها في صراع قاسٍ تكون نتيجته التعافي لمن يمتلكون بنية جسمية سليمة وأجهزة مناعية قوية وأنظمة غذائية متينة. ولكن في الجانب المقابل، فإن الفيروس قادر على إنهاء حياة أي إنسان لا يمتلك أيا من هذه الثلاثة.
أما الشيء المخيف فهو قدرته على الانتشار والتفشي بالسرعة والقوة الغريبة بمجرد اللمس أو التماس أو التنفس أو غيرها، حتى أنه يبقى حيا في المكان أو السطح لفترة تزيد عن 10 ساعات. ويترك للحكومات مخاطر عديدة ترتبط بكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. بل إن كورونا بدأ يفتش في البيئات الصحية بكل المدن ويكشف عن قصورها وفشلها وأوجه النقص فيها.
كل هذه المعطيات جعلت من فيروس كورونا وحشا قاسيا وكاسرا قادرا على الانتقال بسرعة البرق ما بين الناس، حتى باءت كثير من تقديرات الدول الكبرى بالعالم بالفشل تجاهه. فكثير من الدول اتخذت في البداية تدابير بسيطة واعتبرت أن الوقاية سهلة وأن السيطرة على الجانحة لن تزيد على بضعة أيام.
إلا إن فترة ال 30 يوميا الأخيرة أثبتت أن الفيروس أكبر وأخطر مما يتصورون جميعا. وهنا ظهرت نواقيس الخطر في كل دول العالم على وجه الإطلاق، متقدمة وغير متقدمة، صناعية وغير صناعية، تجارية وغير تجارية.
وباء عالمي .. متعدد الصور
كل التقارير التي جاءت حول المرضى بالدول المختلفة باتت مختلفة وتسبب إرباكا نتيجة تعدد صور أعراض المرض وتكدس أشكال متباينة للفيروس. الشاهد أن الوباء بلا شكل موحد ولا يمتلك أعراضا واحدة، أحيانا تظهر أعراضه من أول يوم وأحيانا أخرى تظل كامنة حتى يتمكن من الجسم، فيظهر والمريض في مرحلته الأخيرة.
تدويل الفيروس .. ومحاربة العولمة
الفيروس لا يبدو أنه من النوع المحلي ولكنه فيروس محب للسفر والانتقال والسياحة ومرتبط على ما يبدو بالطيران. من هنا جاءت الدعوات لتعليق رحلات الطيران وإيقاف السياحة ومنع رحلات السفر ما بين الدول، والتي بدأت تطبق جميعها تباعا هذه القيود غير المعتادة. ويبدو أن الفيروس يعادي ويحارب عولمة العالم ويكسر كل قواعد ومبادئ حرية التجارة للسلع والخدمات والتي على رأسها تحرير قيود السفر والسياحة والطيران والتي هي بوابة تحرير الاقتصاد العالمي.
لم يكن عقلنا البشري ليصدق أن فيروسا صغيرا لا يرى بالعين المجردة يمكن أن يحارب القوى الكبرى بالعالم ويحارب كل الأنظمة والقوانين الدولية التي أسست وأقرت العولمة وتحرير التجارة متعددة الأطراف.. بل هو الآن يغلق كل أسواق الدول على نفسها .. فهو يجبر الجميع .. «لا لفتح الحدود .. لا لتحرير التجارة .. لا للطيران .. لا للسفر .. لا للسياحة».
كورونا.. يشل حركة المؤسسات والحكومات بكافة الدول
في تطور مثير بدأت معظم حكومات العالم تعلق الدراسة بالجامعات والمدارس، ثم تطور الأمر إلى تعليق وإيقاف كافة الفعاليات التي بها تجمعات داخل الدولة .. ثم تطور الأمر إلى منع الأسواق التجارية، وأخيرا تجيء المرحلة الأخيرة بتعليق العمل في مؤسسات الدولة وشركات القطاع الخاص، سواء جزئيا أو كليا.
وهنا يأتي التحدي الأكبر من كورونا الذي أصبح هو من يشرع القوانين واللوائح الجديدة الخاصة به .. والتي يتحدى بها امبراطوريات الرسمالية العالمية، بل يجابه من خلالها القاعدة الأساسية للعولمة وحرية التجارة والتي مفادها: دعه يعمل-دعه يمر».
ويغير الشعار الرئيسي للنظام الرأسمالي بشعار كورونا: «لا تدعه يمر .. لا تدعه يعمل».
إن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي التداعيات الاقتصادية لكورونا؟ وكيف الحال إذا استمر الوضع على هذا المنوال عدة شهور أخرى؟ كم يمكن أن تكون حجم الخسائر الاقتصادية بالعالم ؟
بلا شك أن التجارة الدولية الآن متوقفة تماما، سواء تجارة السلع أو الخدمات.. وحتى إن كانت تجارة السلع لا تزال سارية في أجزاء مهمة منها، فإن تجارة الخدمات في اعتقادنا وصلت للصفر لحظة كتابة هذا التقرير، فلا رحلات ولا سفر ولا سياحة ولا طيران، حتى النقل الداخلي للوسائل الجماعية متوقع توقفه في غالبية دول العالم.
فإذا كان اقتصاد السياحة والسفر يقدر سنويا بنحو 8 تريليون دولار، فإن حجم الخسائر الناتجة عن كورونا خلال الشهور القليلة الماضية في الاعتقاد ناهزت ال 500 مليار دولار على أقل تقدير.
أما بالنسبة للتجارة العالمية، فإن كانت تقديرات 2019 تدور حول 20 تريليون دولار، فإن وحدة أبحاث الجزيرة تتوقع أن تناهز حجم الخسائر التي خلفها كورونا حتى هذه اللحظة بما لا يقل عن 1 تريليون دولار.
إلا إنه مع هذا التراجع ورغم تلك الخسائر، فإن بعض القطاعات سوف تنشط على المستوي العالمي، والتي على رأسها قطاع الدواء .. حيث من المتوقع أن تستفيد بعض الدول التي تعد مصدرة بالدرجة الأولى للدواء وعلى رأسها ألمانيا وسويسرا وفرنسا والولايات المتحدة وبلجيكا .. فإذا كانت حجم مبيعات هذا القطاع تصل عالميا إلى 350 مليار دولار، فإن وحدة أبحاث الجزيرة تتوقع أن تذهب إلى تضاعف هذا القطاع إلى ما يناهز ال500 مليار دولار هذا العام.
وعليه، فإن حجم الخسائر الصافية لكورونا حتى الآن تناهز ال 1.0-1.5 تريليون دولار، إلا أن الخسارة الأكبر في إقراره وفرضه لقواعد جديدة على النظام الاقتصادي والتجاري العالمي برفع شعار «لا للحرية .. لا لفتح الحدود .. ونعم للحماية».
كل هذه التغييرات الجوهرية يمكن أن تترك تداعيات اقتصادية مهمة، على رأسها بوادر لركود اقتصادي عالمي، بدأت تلوح مؤشراته في الأفق.
المصدر:
International Monetary Fund , Direction of trade statistics yearbook.