اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد جعل الله بعض الأشياء مصادر يُغذي بعضها بعضاً، وأعمدة يقوم كل منها على الآخر، فالحواس وما يدور في فلكها من خواطر ينطلق منها الذكر، وخواطر الذكر تُحرِّك رويّة الفكر التي بدورها تثير مكامن الإرادة، والإرادة تتحكم في أسباب العمل.
والرأي في مفهومه الصحيح هو الرأي الذي يحتضنه العقل منذ أن يتشكل فكراً ثم إرادة ثم عملاً، لأن الرأي بمجرد أن ينبثق عن الفكر يتحول إلى إرادة والإرادة تتحول إلى عمل مع مواكبة الرأي لعملية التحول حتى نهاية التنفيذ. ووفقاً لهذا المفهوم فإن الرأي لا يكون إلا عن عقل وتجربة، والعقل غريزة في الإنسان والتجارب مكتسبة مع الزمان، والتجارب هي لقاح العقول، والرأي نتاجها، حيث إن الرأي هو كل فكرة أنتجتها التجربة، وقد قال الشاعر:
ما استقامت قناة رأيي إلا
بعد ما عوَّج المشيب قناتي
والرأي يشكل قوة فكرية معنوية، يستطيع بموجبها الإنسان استخدام القوة المعنوية والمادية كما ينبغي وعلى مَنْ ينبغي، وفي الحالة التي تنبغي، حيث يعتمد نجاح هذه القوى في تحقيق أهدافها وإنجاز مهامها على ما يترتب على الرأي من القرارات والأوامر التي يعود إليها الفضل في تصريف الأمور ووضعها في نصابها، بعد أن يُحسب لها حسابها، وقد ربط أحد السياسيين الحكماء بين الرأي والسلاح والمال، وهذا الربط هو ربط ضرورة لا ربط مفاضلة حيث قال: إذا كان الرأي عند مَنْ لا يُسمع له، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند مَنْ لا يبذله ضاعت الأمور.
ولا يخفى على عاقل قيمة الرأي والمنزلة التي يحتلها عند أولي النُّهى وصنّاع القرار، إذ إن الرأي الصائب يفضي إلى اتخاذ قرارات صائبة، ويبنى عليه سياسات ناجحة، فضلاً عن أن أبواب أصحاب الرأي والمشورة هي أحد الأبواب المطلوب طَرْقُها، للاستفادة من رأي أصحابها، كما أن الرأي ضرب من ضروب الشجاعة لما تمثله الشجاعة المعنوية والقولية من قيمة ترقى أحياناً في جرأتها ونتائجها إلى مستوى الشجاعة الفعلية إن لم تتفوق عليها، وقد قال الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوَّل وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرةٍ
بلغت من العلياءُ كل مكانِ
ولربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقرانِ
والرأي في إحدى حالاته هو القاسم المشترك الذي يجمع بين النصيحة والمشورة، مع تميّز كل حالة بطابعها الخاص، والاختلاف الجوهري بينهما يتمثل في الكيفية التي يقدم فيها الرأي، فالأولى يبادر فيها الناصح بإعطاء نصيحته بينما في الثانية يطلب المستشير المشورة من المشير والهدف واحد في كلتا الحالتين، وحتى تكون النصيحة صحيحة والمشورة مريحة، والرأي يتم قبوله ويفعل مفعوله لا غنى عن الالتزام بآدابهما والانضباط بضوابطهما ضمن القيود المعلومة والحدود المرسومة، وقد تطرقت إلى النصيحة والمشورة في مقالات سابقة.
وكل ما ارتفع مقام الذي يقدم له الرأي فإن هذا الرأي يتعين أن يكون مبنياً على النصيحة والطاعة، لأن نتيجته مرهونة بهاتين الفضيلتين، مع الأخذ في الحسبان بذل الجهد الجهيد وإلقاء النظرة الفاحصة للتأكد من وضوح الرأي وخلوه من أية فكرة ناقصة بالإضافة إلى تغليفه بغلاف من الكياسة، وعرضه بالصيغة التي تصونه من الخطل، وتنأى به عن الإطالة والملل.
وقد تكلم أحد فلاسفة اليونان عن الفرق بين الهوى والرأي موضحاً أن الهوى يغلب عليه طابع الخصوصية السلبية في حين يتسم الرأي بالعمومية الإيجابية، علاوة على أن الهوى في محيط العاجل بينما الرأي في محيط الآجل، كما أن الهوى في حيز العاطفة والرأي في حيز العقل على نحو يجعل الهوى سريع التلاشي والاضمحلال، والرأي يستمر على طول الزمان.
وثمة بعض الصفات التي مَنْ اتصف بها لا يؤتمن فكره، ولا يوثق برأيه مهما كان عاقلاً، ومنها على سبيل المثال اتباع الهوى والحسد والرياء والجبن والبخل، وغيرها من الأمور الجالبة للهم التي يتعطل معها التفكير بصورة يتعطل معها الرأي، حيث إن الذي يتصف بأي صفة من هذه الصفات يبقى رهينة لهواه ويميل وفقاً لما تمليه عليه صفته، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك والريبة على رأيه، وبالتالي التحفظ على الأخذ بهذا الرأي انطلاقاً من أن غير الناصح شأنه شأن فاقد الرأي. وقد قال الشاعر:
وليس يشفيك النصيح ورأيه
غريب ولا ذو الرأي والصدر واغر
وقال آخر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض، والرأي مختلف
واتخاذ القرارات على المستويات الدنيا والعليا، وعقد الإرادة للقيام بعمل ما، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، كلها تحتاج إلى رأي يتحول تلقائياً إلى إرادة قابلة للتنفيذ بالنسبة للأفراد في الحالات العادية، كما يتم ترجمة الرأي إلى أمر أو قرار من خلال دراسة أو تقدير موقف في المواقف ذات الأهمية والسمة الجماعية. وكل ما علا مستوى القيادة أو زادت صعوبة المهمة كل ما تعقد الرأي، واحتاج إلى اهتمام أكثر من قبل صاحب القرار المسؤول عن النجاح والفشل، وكذلك الأطراف المشتركة في تقديم الآراء والمسؤولة عن بلورتها على هيئة أمر أو قرار، كما أن العملية بجميع حيثياتها تسير في تناسب طردي تبعاً لمستوى القيادة من جهة، وحجم الموقف وصعوبة المعضلة من جهة أخرى.
وكما أن من أهم وظائف صاحب الرأي معالجة الأمور المصيرية ذات السمة الجماعية، فإن ثمة مَنْ يتعامل مع حالات عادية ذات طابع فردي، بحيث يتسع مفهوم ذلك ليشمل التعامل مع طيف واسع من المواقف والمعضلات التي يتم استخدام الرأي لتذليلها وإيجاد أفضل الحلول لها بفضل الانتقال من حيز الفكر إلى حيز الإرادة وصولاً إلى دائرة العمل التنفيذي مع التسلح بسلاح العقل والعلم والأدب من خلال صقل الموهبة والدراسة والممارسة.
والرأي يمثل الفكرة الهادفة المبنية على التجربة والخبرة، وهذا يعني أن التجربة والخبرة والدراسة والممارسة التي يتولى الفكر تدبيرها، ويقوم العقل بتحضيرها هي التي يطلق عليها رأياً، وفي غياب ذلك لا يستقيم الاسم، بل تفقد كلمة الرأي معناها ومغزاها نتيجة لفقدان مرجعيتها التي ترجع إليها، تلك المرجعية المتمثلة في العقل والتجربة، نظراً لأن الفكرة الهادفة والنظرة الصائبة تمثلان ثمرة من ثمار الدراسة النظرية والممارسة العملية التي تكشف عنها التجربة والخبرة، ضمن إطار الفكر والعقل، ومعضلة المعاضل هي أن يُطلب الرأي من غير أهله، أو كما قال المهلب: إن من البلية أن يكون الرأي بيد مَنْ يملكه دون مَنْ يبصره.