علي الخزيم
لعل جملة من الأمثلة تُيسِّر إيضاح الفكرة وتقرِّب المعنى والتناوش حولهما غير بعيد لتحقيق الفائدة المرجوة، فإليكموها:
- يبادر أحدهم أول ما تطأ رجله أرضية الحرم الشريف بالتقاط سنابات وصور مختلفة الزوايا والمواقع؛ وبثِّها للأقارب والمعارف مقرونة بعبارات يؤكِّد بها أنه لحبه لهم لم يبخل عليهم بالدعاء لهم بهذه الأماكن الطاهرة، وهو منذ أمدٍ لم يَر أو يتحدث مع أغلبهم، ولديه خصومة ظاهرة أو باطنة مع الأكثرية، غير أن الأجهزة المحمولة تفيد أيضاً بممارسة التمثيل عن بعد!
- دخل بمشروع تجاري جديد ولجلب الأنظار ولفت الجمهور دعا والدته لقص ما يُسمى (شريط الافتتاح)، ودعت له دعاءً بليغاً بلهجتها المناطقية الصافية (لهجة الديرة) ولكن لانخفاض صوتها بما جُبلت عليه من الحياء وعامل السن؛ لم يعرف كثير من الحضور أنها قد دعت بأن يهديه الله لأن يبقى قريباً منها وأن يكرِّر زيارتها التي لا تحدث إلا لماماً!
- شاهدت حواراً بين اثنين أحدهما عُرف عنه الظرف والفكاهة والدعابة لا سيما مع المعارف والأصحاب، والآخر يعتمد الرزانة والتعقّل طبعاً أو تطبّعاً، وهو يتهم الأول بأنه منافق، إذ إنه بالأمس وبحضرة عدد من كبار السن كان قد غيَّر أسلوبه جذرياً وأخذ يبادلهم حديث المُجرِّبين العقلاء! فرد عليه: بالعامية (كل شارب وله مقص)، أي أن لكل مقام مقالا.
وأرى بالصور الثلاث السابقة - وهي مجرد أمثلة لحالات كثيرة تحصل بيننا بالمجتمع - رسائل جديرة بالاهتمام ومُنبِّه لنا تجاه ما قد يبدر من البعض دون قصد مرتّب بالغالب إنما جهلاً وقلة استيعاب لأبعاد مثل تلك التصرفات، أو استسهالاً لمرورها على أذهان الغير، أو بمعنى أدق يكون فيها استغفال وانتقاص لعقول المُتلقِّين أو افتراض طيبتهم التي تتجاوز الموقف بسماحة نفس، فيدمن مثل هؤلاء حالات تمرير المواقف عليهم، وهذه من عيوب من لا يُقيم وزناً للأخيار المتسامحين، ويقف احتراماً لكل صَلْفٍ يحثوه التراب إن أخطأ بحقه.
ومن العقوق استثمار قيمة الوالدين الاعتبارية في أمور تسويقية أو قضاء مصالح خاصة حين الشعور بأن طرفاً ما لن يقضي حوائجنا إلا بإقناع آبائنا بتجشَّم المصاعب من أجل مصالحنا الشخصية البحتة، أو اتخاذهم ستاراً لأخطاء أو شبهات قد نقع بها؛ والأبشع أن اتخذناهم كذلك دون علمهم ورضاهم، بر الوالدين لا يكون إلا بتعبنا لأجل راحتهم وسعادتهم والدعاء لهم، واقتناص كل فرصة تَرسم على محيَّاهم علامات البهجة والارتياح.
تلوُّن الخطاب بالمجالس قد لا يكون تلوناً بالوجوه والقلوب، وربما لا يوصف بالمنافق من ربط لسانه عن فضول القول تأدباً مع الجلساء وإعطاء كل ذي مقام وقيمة حقه من ميزان الرجال وبميزان العقلاء، وهي خصال لا يدركها سوى ذوي الحكمة ورجاحة العقول، وليس من الحصافة أن نكون بدرجة واحدة ونَسَقٍ لا يتغيَّر بكل مجالسنا مهما ضمَّت من العقول والمقامات، والنفاق لا معنى له هنا ومعاييره واعتباراته تختلف عن هذا السلوك العقلاني، يُقال: إن الوجوه والمشاعر المُعلََّبة لا يبطئ كشفها!