«الجزيرة» - خاص:
صدرت مؤخرًا مذكرات الرائد المخضرم في تاريخ الرياضة السعودية د. صالح أحمد بن ناصر بعنوان (قصة حياتي.. 50 عامًا بين الإعلام والرياضة والشباب) عن الدار العربية اللبنانية في القاهرة وبيروت، وكان الرجل قد وعد بكتابة مذكراته منذ سنوات طويلة وأنجز وعده الآن ليروي لنا تاريخ تجربته الطويلة في الإعلام والرياضة على مدى خمسين عامًا.
الدكتور صالح بن ناصر حجر أساس في تاريخ الرياضة السعودية ولعله الوحيد من الرواد في التاريخ الرياضي الذي كتب مذكراته. ولهذا فإنه يروي في كتابه قصصًا وأسرارًا ومعلومات لم تكن معروفة أو لم تكن واضحة أو موثقة وحصل فيها خلط بين المؤرخين الرياضيين.
أعجوبة انضمامنا للجنة الأولمبية الدولية
يروي ابن ناصر في مذكراته القصة الكاملة لإنشاء إدارة رعاية الشباب في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي بدأ حياته العملية موظفًا بها. وفي أقل من عام أصبح مديرًا لإدارة رعاية الشاب بالوزارة، واستطاع مع زملائه في تلك الإدارة الصغيرة في سنة 1964م تأسيس اللجنة الأولمبية العربية السعودية، هي هيئة رياضية عليا سعودية ذات شخصية اعتبارية مستقلة، ترعاها الدولة وتساعدها على تحقيق أهدافها، وكان هذا أهم وأول إنجازاته، حيث قامت تلك الإدارة بتوفير شروط الانضمام للجنة الأولمبية الدولية التي تقتضي أن تكون لدى المملكة خمسة اتحادات دولية معترف بها، وبالفعل سافر صالح بن ناصر على رأس وفد سعودي كل أعضائه لا تزيد أعمارهم على 25 عامًا سنة 1964م إلى طوكيو لتقديم ملف انضمام اللجنة الأولمبية السعودية إلى عضوية اللجنة الأولمبية الدولية، التي كانت تنعقد على هامش الدورة الأولمبية الصيفية ذلك العام، وكانت تلك أول مرة يرأس فيها وفدًا إلى خارج المملكة، وبرغم بعض العراقيل استطاع ابن ناصر وزملائه الحصول على عضويتنا في اللجنة الأولمبية لأول مرة.
ومن هذا النجاح كان المتوقع أن ينطلق ابن ناصر في آفاق أوسع ولكن هذا تأجل إلى حين وكأنه كان على موعد مع القدر ليواصل المسيرة التاريخية للرياضة السعودية مع عرابها الأول الأمير فيصل بن فهد -رحمه الله-. وهنا يروي ابن ناصر مواقف عظيمة للشيخ عبدالرحمن أبا الخيل وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك.. هذا الرجل العملاق الذي كان يصر على ابتعاث موظفي وزارته للدراسات العليا ويشجعهم عليها، ويعمل على إقناع من لا يرد. وهكذا سافر ابن ناصر إلى الولايات المتحدة للماجستير والدكتوراه. وكان المتوقع أن يعود لإدارة رعاية الشباب بوزارة العمل الشؤون الاجتماعية ولكن ذلك لم يحدث. وهنا توقف صاحب المذكرات وقفة تاريخية روى فيها قصة إدارة رعاية الشباب بهذه الوزارة وأضاف معلومات تاريخية عن الذين تعاقبوا على إدارتها وخصوصًا فترة الأمير خالد الفيصل الذي حقق إنجازات مضيئة في تاريخ الحركة الرياضية في بلادنا.
البداية التاريخية مع فيصل بن فهد
عاد ابن ناصر من البعثة وسرعان ما تنازعه شخصيتان مهمتان أولها الأمير فيصل بن فهد الذي سأل عن تخرجه وكان في انتظاره لينضم إليه في الرئاسة العامة لرعاية الشباب التي كانت قد استقلت حديثًا والثاني كان د محمد عبده يماني الذي عين وقتها وزيرًا للإعلام فطلب ابن ناصر أن يعين معه وكيلاً مساعدًا للوزارة لشؤون الإذاعة والتلفزيون، وما كانت رعاية السياب الناشئة وقتها لديها هذه المرتبة فوافق الأمير فيصل بن فهد أن يذهب ابن ناصر للإعلام رسميًا شريطة أن يبقى معه مستشارا بالرئاسة العامة لرعاية الشباب. ويروي ابن ناصر أن ذلك الاتفاق تم في مجلس الملك فهد ومباركته. وبالفعل بدأ ابن ناصر مسيرته مع الأمير فيصل بن فهد منذ بداية التأسيس، وشارك معه في كل الإنجازات التي تمت وسافر معه إلى كل المناسبات الرياضية الدولية طوال السنوات السبع التي أمضاها في وزارة الإعلام وهي من 1976 - 1983م.
وعن هذه السنوات يقول صاحب المذكرات المخضرم: العمل فيها وكيلاً مساعدًا بوزارة الإعلام سنة 1976م؛ أي بعد عامين من إنشاء الرئاسة العامة لرعاية الشباب، أمضيت سبع سنوات مستشارًا لسمو الأمير فيصل بن فهد، أعطيت فيها رعاية الشباب من وقتي وفكري أكثر مما تسمح به مشاغلي ومسؤولياتي في وزارة الإعلام، وسافرت معه كثيرًا، ووجدت أن من يعمل مع رجل مثل فيصل بن فهد عن قرب ويعرفه حقيقة، لا بد أن يعطيه أكثر مما تستحقه مساحة الوظيفة، فقد أسرني بأدبه الجم وتواضعه وحُسن خُلقه. وكان أجمل ما في أخلاقه تواضعه، فقد كان فعلاً يستشير حتى في الأمور التي لا تحتاج استشارة، وأحسست معه أنني فعلاً مستشار حقيقي، وليس حبرًا على ورق.
وبعد أن ترك د. محمد عبده يماني وزارة الإعلام لم يطب له المقام فيها، فاستقال والتحق رسميًا بالرئاسة العامة لرعاية الشباب بمرتبة وكيل وزارة وأكمل مشواره التاريخي مع فيصل بن فهد رحمه الله ثم مع الأمير سلطان بن فهد ثم الأمير نواف بن فيصل إلى تقاعده واستمررت مستشارًا.
عمل د.صالح بن ناصر ربع قرن إلى جوار الأمير فيصل بن فهد وهو بهذا يكون أقدم شخصية على قيد الحياة شاهدة على عصر الرياضة السعودية الذهبي. وفي هذا الصدد يقول صاحب المذكرات: «يشهد التاريخ الرياضي أن الأمير فيصل بن فهد كان حجر زاوية رئيسة ليس للرياضة فقط بل للثقافة والفكر والإنسانية؛ لقد تشرفت بالعمل معه نحو 25 سنة، وسعدت بأشياء كثيرة في أسلوبه في العمل؛ فالأمير فيصل هو النقلة الرئيسة لرعاية الشباب، ومعاصرتي شهادة تاريخية له، لأني عشت معه كل شيء. هكذا عرفت شخصيته منذ أول سنة عملت معه فيها، ولم تتغير حتى وفاته -رحمه الله-».
ويضيف ابن ناصر: «والحقيقة أن من يعمل مع شخصية مثل فيصل بن فهد يعطيه ويعطي العمل معه حياته كلها. والذكريات الإنسانية معه كثيرة، بل أكثر من أن يستوعبها كتاب، والمناسبات الرياضية وأحداثها وملابساتها وذكرياتها كثيرة أيضا. هنا ساختار من هذه وتلك بعض الذكريات العزيزة، والمواقف الرياضية التي لا تُنسى، التي مرت بي أثناء العمل معه -رحمه الله-».
ويروي د.صالح بن ناصر القصص الممتعة مما عاشه مع أصحاب القرار وذكريات اهتمام الملك فهد شخصيًا للأحداث الرياضية ومتابعته بنفسه انتصاراتنا الدولية نقدم هنا نموذجًا منها ولا تغني هذه القصة وغيرها عن قراءة الكتاب الذي يعد بحق متعة معرفة وتاريخ في سجل الرياضة السعودية.
متابعة الملك فهد وسقوط اللاعب 3
وفي مباراة الصين في كأس آسيا أحرز محمد عبدالجواد هدفًا، وانفعل بعده وسقط على الأرض بطريقة غريبة خلف المرمى، ولما اتصل الملك فهد قال لي: ما الذي حدث لمحمد عبدالجواد؟! قلت له: بخير لكنه يمكن انفعل وهو يحتفل بالهدف..! وعندما التقيت محمد عبدالجواد سألته فيما بيني وبينه: ما سبب سقوطك على الأرض يا محمد بعد الهدف؟ فقال يصف اللحظة التي سبقت تحقيقه الهدف: عندما نظرت للاعب الذي أمامي رأيت فخذه فقط بحجم جسمي كله، فقلت بسم الله وهجمت، فلم أجد نفسي إلا وقد أخذت الكرة منه وأحرزت الهدف، وهذا الذي جعلني أرمي نفسي وراء المرمى..!
مفاجآت كأس أمم آسيا في سنغافورة
عن مباراة كأس آسيا في سنة 1984م في سنغافورة يروي ابن ناصركانت هناك حملة على المنتخب السعودي قبل البطولة بسبب إقصائه فرق شرق آسيا من التأهل إلى لوس أنجلوس، الذي تسبب في خسائر فادحة لشركات المراهنات، وبالمقابل كان هناك دعم كبير من الأمير فيصل بن فهد، بل من الملك فهد نفسه، وكان في اتصال يومي بنا، وهذا نفسيًا كان مهما لي وللفريق، وكان ابن ناصر ينقل كلام الملك فهد والأمير فيصل للاعبين، وكان اللاعبون على مستوى المسؤولية، خاصة أربعة منهم، وهم: صالح النعيمة، وماجد عبدالله، ومحمد عبدالجواد، وصالح خليفة. وكذلك حارس المرمى الدعيع، والمدرب خليل الزياني، ومدير المنتخب فهد الدهمش، وكان كبار اللاعبين قد أدوا أداءً رائعًا.
ويقول ابن ناصر: «كنا كل يوم نجتمع، وكان صالح النعيمة خير كابتن للمنتخب في تاريخ المملكة. وحقيقة كان للمدرب خليل الزياني تأثيره بأسلوبه التربوي الرائع، وشعر اللاعبون أن الملك فهد مهتم جدًا بهم».
الملك فهد يطلب الحديث مع اللاعبين جميعًا..!
وفي المباراة قبل الأخيرة بعد الفوز على إيران في نصف النهائي بضربات الترجيح، كان ابن ناصر مع القائم بالأعمال في السفارة السعودية في السيارة، فاتصل الملك فهد وبارك، وقال له: أنا مع القائم بالأعمال يا طويل العمر. فقال الملك: عندما تصل الفندق أريد أن أكلم اللاعبين كلهم، اتصل بي على تليفون البيت. وبعد قليل اتصل وقال له: ما اتصلت ليه؟ قال ابن ناصر: اللاعبون يستحمون. قال الملك له: ليه؟ فرد: لازم للتخلص من روائح الملعب يا طويل العمر. فظل الملك فهد -رحمه الله- يضحك بصوت عالٍ في التليفون ويقول لمن حوله: صالح يقول لي ريحتهم (....) وهل أنا سأشم ريحتهم على التليفون؟! وظل -رحمه الله- على الخط الآخر يضحك ويستغرق في الضحك -رحمه الله-..!
ويستطرد ابن ناصر في سرد بقية القصة: «ولما جاء اللاعبون قال صالح النعيمة: أحمد جميل سيكون أول واحد يكلم الملك. فقلت له: انت الكابتن. فقال: هو أكبر مني سنا. وقال: يا أحمد تعال كلم الملك. فقال له أحمد جميل: انت مجنون؛ أنا أكلم الملك؟! فقلت لهم: لازم واحد فيكم يكلم الملك لأنه سيكون على الخط. واتصل الملك، فقبل أحمد جميل أن يتحدث معه، وقال له: آلو. فقال له الملك: مبروك. فقال للملك: مبروك عليك. كيفك؟ أنت مبسوط؟! وأحسست أن الملك يضحك على الخط الآخر من تلقائية أحمد جميل وبساطته، وكنا قد غرقنا كلنا في الضحك. ثم طلب الملك أن يتكلم معهم جميعًا، وكان متابعًا بشكل عجيب، وقال لي: يا صالح أجزل لهم العطاء اليوم. عندك فلوس ولا أرسل لكم؟ قلت له: أرسل لنا. في اليوم التالي اتصل البنك وأبلغوني أن تحويلاً قد وصل. وكان هذا قبل المباراة النهائية مع الصين».
رئيس الوفد الإيراني الذي يجري ورائي..!
ويروي ابن ناصر هذا الموقف الطريف مع الملك فهد:
«للمجموعة الرياضية الفضل في النجاح، فكنا نلتقي مرتين في اليوم مع خليل الزياني. وكان الملك فهد قد قال لي: بعد المباراة وأنت ذاهب للاعبين كنت تجري ووراءك رئيس الوفد الإيراني. هل كنت تجري خوفًا منه؟! وضحك، فقلت له: لا يا طويل العمر لم أكن أدري أنه ورائي. قال: طيب لماذا كنت تجري؟ قلت له: قال لي الشيخ فهد الأحمد أنا نازل أسلم على أولادي لاعبي المنتخب السعودي، وأتمنى لهم الفوز في المباراة النهائية، فكنت أريد أن أدركه وأسبقه لكي استقبله.
وبعد العودة استقبلنا الملك، وكانت هذه أول مرة يستقبل فيها الملك فهد وفدًا رياضيا، وكان الاستقبال رائعًا وودودًا. كان الملك لطيفًا، وكانت أسئلته تظهر أنه مطلع على كل شيء -رحمه الله-».
العرضة في شوارع سنغافورة
ويروي د.صالح بن ناصر قصة فوز المنتخب السعودي يوم الفوز بكأس أمم آسيا فيقول: «أقمنا حفلة في سنغافورة، وكنا طلبنا من الحكومة إغلاق الشارع الذي فيه الفندق لنحتفل بالكأس، وتجمع السياح حولنا، وكنا نرقص العرضة. فاتصل بي الديوان الملكي ووجدت الملك يكلمني، ويقول لي: أين أنت؟ قلت له: في الشارع. قال لي: نحن نراكم الآن في التليفزيون، كيف استطعتم إقامة هذه الحفلة في الشارع؟ قلت له: بإذن من الحكومة السنغافورية. فقال: وكيف تجمَّع كل هؤلاء الناس؟ قلت: السياح تجمعوا».
الملك فهد يتصل ويسأل: أين فيصل؟
ويشهد ابن ناصر أن الملك فهد -رحمه الله- كان متابعًا لكل شيء بصورة عجيبة، قد لا يتوقعها إِنسان، وكان يسأل عن كل صغيرة وكبيرة؛ فيقول: «أذكر ذات مرة سنة 1986م كنَّا في كوريا أثناء دورة الألعاب الآسيوية جاءني الضابط المرافق للأمير فيصل بن فهد، فقال لي: الديوان الملكي يطلبك. فوجدت الملك على التليفون، فقال لي: أين فيصل؟ هو لا يرد ولا أحد من مرافقيه؟ فقلت له: الأمير فيصل مع رئيس الدولة في مقصورة خاصة برؤساء الدول، ومعهم الوزراء ورؤساء الوفود، وأنا مع أعضاء البعثة في مكان آخر. وكان الأمير فيصل جالسًا في المكان الذي كنت فيه مباشرة، فقلت في نفسي: الله يستر أخشى أن تصور الكاميرا المقصورة، وتفضحنا أمام الملك. ورويت للأمير فيصل ما حدث، فضحك وقال لي: عندما نعود إن شاء الله سأقول للملك إنك كنت تجلس بجواري وأورطك! وضحك».