د. حسن بن فهد الهويمل
نحن في عصر مَوْبُوء، عصرِ التمزّق: الفكري، والديني، والسياسي، بعد تمزيق الأرض. وفي هذا تشتيت للمشتت، وتمزيق للممزق.
الإعلام العميل بِجَلدِه الفَاجِر، يشكِّل الأنساق الثقافية، ويكرِّس من خلالها الفرقة، ويغرس الأحقاد، ويعمِّق الضغائن، ويفرِّق بين المرء، وزوجه.
والقابلية: للاستعمار، واللعب المصمية تُفْسِح المجال لدعاة السوء، على أبواب الفتن: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
كل شيء يحمل المتابع على سوء الظن، واستبعاد انتهاء سنوات التَّيْهِ.
قدر مشرقنا العصيب، وضعه تحت المجاهر الدقيقة، والشاملة، وضرب أي تحرك يقيل العثرات.
لقد سيطر (الاستعمار التقليدي): بثكناته، ومناديبه على مقاليد الحكم في الوطن العربي ردحاً من الزمن، وهيأت المنظمات، والمجالس العالمية له الأجواء الملائمة لتمزيق الأرض، وتكريس الولاء القُطْرِي، وتصنيم الحدود الجغرافية، وفرض ذلك بوصفه واقعاً لا محيد عنه.
ثم أغرت المتأدلجين بالولاء (الأممي)، وشحنت عواطفهم، وغيَّبت عقولهم، وصنَّمت شخصيات لا تحمل طهر الصنم، فكان ذلك مؤذناً بمزيد من حمامات الدماء.
ولما لم يحسن الاستعمار إدارة الأمور، بما يُهدِّئ الشعوب، هبَّت من سباتها، وحسرت ظله، ولكن الضربة القاضية، والمكر العظيم، أعاد الجيوش من الثغور، إلى القصور.
وذلك بتدبير الانقلابات العسكرية الدموية، وتحويل الحكومات المدنية من ملكية، أو سلطانية، أو أميرية إلى عسكرية مسلحة.
ولغة العسكر فوقية، إلزامية تقوم على الطاعة العمياء.
هذه الأنظمة الطاغية تولِّد في ظلها: حزبيات، وطائفيات، ومذاهب شتَّى متعصِّبة، متطرِّفة. وانتقل الولاء من (الدين الأشمل) إلى تلك المذاهب التجريئية، واحتدمت المشاعر، وتعمَّق الولاء، حتى أصبح لكل جماعة ولاؤها، ولكل طائفة زعيمها، ولكل حزب قائده. وغاب في أثناء ذلك الولاء: للدين، والوطن، والسلطة الشرعية. ونسي الجميع التسمية الأشمل: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ}.
ووجد الاستعمار الجديد في ظل هذا التشرذم سبيله إلى هذه الفئات، يتخلَّل بلسانه، ويده، وفكره، يُحرِّض على الفتنة، ويعمِّق الفُرقة، ويُخوِّفُ أولياءه. حتى لقد نسي المسلم أنه مسلم، وأن الانتماء الحق للإسلام، والولاء الحق (للوحيين) لا حزبية، ولا طائفية، ولا مذهبية.
وهان على المتشرذمين القتل، ونسوا تحذير الرسول من لقاء المسلمين بالسلاح، ونسوا تخويفه، وتحذيره: (إِذَا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل، والمقتول في النار) متفق عليه. : (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) متفق عليه.
لقد تمكَّن الاستعمار الحديث من تكريس الفرقة، وتعميق العداوة، والتخويف. وعزَّز التعصَّب، والتطرف، واحتكار الحق، وتصنيف الآخر.
كما استفحل الإسلام الحركي المؤدلج. وأنشئت القنوات، والإذاعات، والمواقع، وأُلِّفت الكتب، وذهب كل متعالم بما يرى، غير عابئ بالأخُوَّة الإسلامية، والعلاقات الإنسانية، والدعوة، والدفع بالتي هي أحسن.
بل تجاوز الأمر إلى تصنيم الأشخاص، والقول بعصمتهم، والسمو بهم فوق المساءلة، والنقد. والركون إلى مثالية القول، وتجاهل الممارسة، والواقع: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
واقع أمتنا كما نرى، ونسمع لا يبشِّر بخير، لقد اجتاحته الحزبية، والطائفية، والمذهبية المتعصِّبة، المتطرِّفة، المتأدلجة، الحركية. واجتالتها ألسنة، وأقلام ضالة مُضلة، وجاهلة متعالمة، وذليلة مُتَذَيِّلة.
وجَهِلَ بعضُ المسلمين خطورة نقض العهود، والمواثيق. وخيانة الأمانة. واستخفوا بالسلطة الشرعية، ووصفوها: بالتسلّط، والعمالة، والرجعية، وجعلوا الخروج عليها حرية، ومواجهتها جهاداً. تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان: قومية، وماركسية، وعلمانية، وليبرالية، وديموقراطية، وبعثية، وأممية، وما شئت من هذه المسميات التي لم تظل، بل أخلت، ولم تُقِل، بل أزلَّت: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}.
وما ذلك كله إلا بغي وعدوان، وإخلال بالأمن:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}.