د.عبدالله بن موسى الطاير
فيروس كورونا المستجد يعيد صياغة الوعي وتشكيل أنساق جديدة في العلاقات الدولية والمجتمعية، هل نقول رب ضارة نافعة؟ ممكن، بيد أن الأمنيات أن يرزقنا الله منافع لا يخالطها ضرر. ومن منافع هذا الوباء أنه أظهر عالم اليوم بدون قيادة حقيقية من الدول العظمى على غرار روزفلت وتشرشل إبان الحرب العالمية الثانية. وباستثناء الرئيس الصيني، لا أجد قيادات في الدول العظمى تتماهى مع مسؤولية الموقف وخطورته. فالرئيس الأمريكي دونالد ترمب لجأ بداية إلى التهوين والتبسيط، فرفع معنويات الدول معه، فتم وضع الوباء في حجمه الطبيعي، وكان فخامته يرسل تطمينات لأسواق المال والأعمال التي حققت في عهده أرقاما قياسية في الصعود. وعندما وقع المحذور وانهارت البورصات، وتحت وطأة الخطاب الديمقراطي الناقد لسلوك البيت الأبيض في مواجهة كورونا خرج بقرارات متوالية غاية في الراديكالية. وعلى نفس الخطى سار بوريس جونسون، الذي خرج بعد اجتماع لجنة الطوارئ في حكومته ليجهز البريطانيين للمآتم على الأحبة الذين سيفقدونهم «قبل يومهم»، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} سورة آل عمران.
أقفلت الدول مطاراتها، وتقطعت أوصال هذا العالم الذي لم يكن مترابطاً في يوم ما كما هو في عصرنا الحاضر، وتحول العالم فعلاً إلى عوالم افتراضية قريب بعضها من بعض وبعيد عنه في ذات الوقت. إن العالم يعيش اليوم تجربة فريدة بعزل الدول عن بعضها، وعزل المدن، ثم عزل الناس بعضهم عن بعض، وفي ذات الوقت يبقى الاتصال الوحيد الذي يلم شتات هذا الكون متمثلا في شبكات الاتصال الحديثة وبخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، إلى حين إصابتها بفيروس (لا سمح الله) يكرس العزل الجسدي والوجداني الواقعي والافتراضي، ولنغمض عيوننا ونتخيل عالمنا حينئذ كيف سيكون؟
قديماً قيل إن الأوبئة نعمة لأنها تكسب الجسم مناعة، ولأي وباء عمر زمني يبدأ فيه الوباء بطيئاً ثم يشتد وفي نهاية المطاف يضمحل بعد أن يموت الكثير ويكتسب البقية المناعة، أو يسبق كل ذلك مصل أو دواء. ولا أظن أن العالم اليوم سيعجز عن الخروج بدواء لفيروس كورونا الجديد، فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله. وأرجو ألا يطيل الساسة ارتداء معاطف الأطباء، ويشغلوا المعامل والعلماء بخطاباتهم وتصريحاتهم الشعبوية على حساب صحة حياة الناس.
حالة الرعب التي يعيشها هذا العالم هي الأولى من نوعها، فهذا الفيروس هو الجائحة التي ولدت في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، ولذلك حظيت بانتشار تفاصيل التفاصيل عنها بما في ذلك الشائعات السوداء والمعلومات المضللة، مما حدا بالكثيرين إلى تفعيل خاصية حظر مفردة كورونا ومشتقاتها على تويتر حتى لا تتلف أعصابهم أكثر مما حل بها حتى الآن.
وفي الوقت ذاته، هناك ظرفاء، حولوا الأزمة إلى طرائف وملح ونكات يسخرون فيها من الفيروس ومن الإجراءات الوقائية ومن سقطات وتناقضات كبار الساسة الذي تسلموا مسؤوليات الأطباء، يفتون في الوقاية والعلاج. ولا بأس من الضحك في الأوقات العصيبة حتى لا يتعاون على أعصابنا الخوف والنكد. يقول الجاحظ: «لو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك لما قيل للزهرة، والحبرة، والحلي، والقصر المبني: كأنه يضحك ضحكاً»، مؤيداً مذهبه في الضحك بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)} سورة النجم. فالضحك يلازم الحياة، والبكاء يصاحب الموت.
أما الأديب الفرنسي أناتول فرانس فقد كتب أن: «السخرية والرحمة هما مستشاران جيدان، إحداهما تجعل حياتنا محبوبة بواسطة الابتسامة، والثانية تجعل حياتنا مقدسة عن طريق البكاء».
ومن طرائف تعامل العرب مع الأوبئة ما نقله أبو الفرج الأصفهاني من أن العرب كانت تقول: «إذا دخل (الإنسان) بلداً فإنه ينهق نهيق الحمار قبل دخولها، فإنه إذا فعل ذلك أمن الوباء». هذه الوصفة السهلة ناجمة عن تصورهم للوباء على أنه مارد «يقف على أبواب المدن ويصيب بسهامه مَن يشاء» من البشر دون البهائم، وإذا نهق الداخل للمدينة الموبوءة فإنه يشوش على المارد فيصنفه ضمن الحيوانات فلا يصيبه شيء. وأياً كان، فإن هذا الوباء يحل وسيرتحل تاركاً أثره على عالمنا المعاصر، وسوف تدرس الإجراءات التي اتخذتها دولة صغيرة وكبيرة، غنية وفقيرة وسيحكم التاريخ عليها.