د.عبد الرحمن الحبيب
«كان هناك عالم قبل كوفيد 19 (كورونا)، وسيكون هناك عالم بعده، لكنه لن يكون هو نفسه» الروائي أوليفر مالوي. وفي ذات السياق كتب المفكر الاقتصادي فيليب ليغرين: أن وباء كورونا يثير شعلة القومية التي تجتاح العالم، وسينفث سمَّه معلناً نهاية العولمة كما نعرفها. فهل تلك مبالغة أم رؤية واقعية؟
قبل نحو قرن، اجتاحت الإنفلونزا الإسبانية العالم حاصدة حياة ما بين 50 إلى 100 مليون نسمة مما يعادل ضعف قتلى الحرب العالمية الأولى، ويفوق ضحايا الطاعون الأسود (أو الموت العظيم) بالقرن الرابع عشر الميلادي، لحد وصفه بأنه «أعظم هولوكوست مَرَضي بالتاريخ»، ومع ذلك كانت آثاره الاقتصادية السلبية قصيرة الأجل.
إذن، ثمة ما يدعو إلى عدم المبالغة في التأثيرات الاقتصادية لفيروس كورونا، كما يقول البعض، إلا أن الفرق شاسع فاقتصاد اليوم عولمي مترابط والعالم أكثر تنقلًا وتداخلاً مما ينشر الوباء بوتيرة أسرع ونطاق أوسع من الإنفلونزا الإسبانية التي قُدِّرت نسبة وفيات المصابين بها بين 2.5 - 5 %، مقاربة لكورونا.
منذ أكثر من عام والتوقعات تشير إلى احتمالية أن يواجه الاقتصاد العالمي ركوداً، ليأتي كورونا ويجعل الاحتمالية حتمية، فكما أوضح بيتر شيف، الرئيس التنفيذي لشركة يورو باسيفيك أن «فيروس كورونا مجرد دبوس، بينما فقاعة الديون هي المشكلة..». وبعدها يأتي الانخفاض الحاد لأسعار النفط ويضع الاقتصاد العالمي أمام المحك.. فهل يمكن لهذا الوباء أن يؤدي بالاقتصادات العالمية للركود، أو ما هو أسوأ لكوارث اقتصادية؟
الإجابة تعتمد على تطور الوباء، والأجوبة لا تزال بطور البحث؛ هل هو مؤقت سينتهي مع ارتفاع حرارة الجو؟ هل ستزيد وتيرته، أم وصلت ذروتها كما تقول الصين وسينتهى بحلول يونيه المقبل؟ فاتجاه انتشار الفيروس صعوداً أو هبوطاً هو ما يحدّد التأثر الاقتصادي.. لكن حتى لو تمت السيطرة عليه واخترع لقاح، وانقشعت غمة الذعر العالمي فكم سيستغرق تعافي الاقتصاد، وهو أصلاً كان مترنحاً قبل كورونا؟
حتى الآن، يكاد يجمع خبراء الاقتصاد بأن الركود أصبح حتمياً، لكنهم يختلفون في مدة بقائه. البعض يراه مؤقتًا قصير الأمد ذاكراً ما حدث مع فيروس سارس عام 2003، إذ تراجعت ثقة المستهلك بالمستقبل، وانخفض الإنفاق، لكنه كان قصير الأجل. إلا أن سارس كان أبطء انتشاراً وأقل فتكاً، بنحو 700 حالة وفاة بالعالم.
لذا يبدو البعض متشائماً، يقول المحلِّل الاقتصادي الروسي ألكسندر نازاروف إن ما يحدث «يمثِّل واقعياً حتمية الانهيار المالي القادم. فإذا بدأ التضخم العالمي المفرط، سوف تتوقف التجارة العالمية لفترة من الوقت، وستتوقف معظم السلاسل التكنولوجية حول العالم، وسيتوقف الكثير منها إلى الأبد، وسوف تكون تلك كارثة محققة في عالمنا المترابط والمتعولم بشكل لا يصدق».
تقول بلومبرغ أن قطاعي الصناعة والتجارة العالميين يعتمدان بشكل أساسي على مبدأ «في الوقت المحدد»، بمعنى أن نقل الأجزاء والسلع المختلفة، من اليابان، مثلاً، إلى أمريكا لا بد من إتمامه بالوقت المحدد بعينه، ما يسمح بتقليل تكاليف التخزين وغيرها من الخدمات اللوجستية. وفي حال حدوث أي عطل بهذه السلسلة التكنولوجية الواحدة فإنها تتوقف تماماً، ما يعني أن مئات المصانع بهذه السلسلة بجميع أنحاء العالم سوف تتوقف، وذلك في إطار سلسلة واحدة فقط.
ويحدّد مايكل والدن (خبير وأستاذ اقتصادي، جامعة نورث كارولينا) أربعة أشكال لهذه الآثار الاقتصادية: نقص المنتجات، وانخفاض المبيعات مؤدياً لإغلاق العديد من المصانع.. وانخفاض في إنفاق المستهلكين التي عادة ما تكون السبب المباشر للركود وتؤدي غالباً إلى انخفاض الدخول وارتفاع معدلات البطالة.. وأخيراً، انخفاض أسعار الأسهم، فالمستثمرون قد يتراجعون فلا أحد يحب عدم اليقين، ولا أحد يعرف مدى سوء تفشي المرض أو ما سيكون تأثيره على الشركات والمستهلكين والاقتصاد..
هبوط سوق الأسهم يمكن أن يؤثِّر على الاقتصاد الحقيقي بعدة طرق، بما في ذلك تقليص ثقة المستهلك وتقليل إنفاقه. فالمستهلكون يخفضون الإنفاق بسبب الخوف وعدم اليقين حتى لو لم يكن الواقع بهذا السوء، وهذا التأثير يمكن أن يكون لها عواقب في العالم الحقيقي، قد تؤدي إلى الركود.
إلى أن تتشكَّل لدينا فكرة جيدة عن مدى انتشار الفيروس وما إذا كانت جهود الاحتواء ستنجح، ستظل الأسواق متذبذبة؛ فإذا كانت مجموعة من الأخبار السيئة تؤدي إلى دفع الأسواق للركود، فإن سبب التفاؤل قد يتسبب في انتعاشه بالسرعة نفسها. أيضاً، ثمة تعويضان قد يعزّزان المستهلكين. الأول هو انخفاض في أسعار الفائدة لقد حدث بالفعل وسيكون موضع ترحيب للأفراد الذين يقترضون المال للمنزل أو السيارة؛ فمثلاً أعلنت بعض الدول مثل اليابان وفرنسا عن برامج لتقديم قروض بلا فوائد للشركات المتضرِّرة من تبعات فيروس كورونا. أما الثاني فهو انخفاض في أسعار النفط ومن ثم في الأسعار..
حالياً، يبدو أن اليقين الوحيد هو عدم اليقين الذي يتعيَّن علينا التعايش معه، وأفضل ما يمكن فعله هو مراقبة الوضع ومدى انتشار الفيروس واتخاذ الاحتياطات لمنع انتشاره. وإذا كان هذا هو أهم الرهانات فإنه «إذا انخفض سوق الأسهم بشكل أكبر، فقد تتوقف كل الرهانات.» كما يقول مايكل والدن..