حمّاد السالمي
* ثم حلَّت سنة (الكورونا الجديد COVID-19)، لتنضم إلى سنوات سبقنها عبر التاريخ البشري. لقد عرف البشر منذ آلاف السنين الكثير من الأمراض والآفات والأوبئة والجوائح التي عمَّت قارات العالم، وقتلت ملايين الناس، ومع أن بعضها أصبح من التاريخ؛ مثل الجدري على سبيل المثال؛ نتيجة للتقدم العلمي المضطرد؛ إلا أن العالم ما زال يواجه تحديات كبيرة مع الفيروسات المرضية التي تطور نفسها، وتتجدد، وتقاوم كل الاحتياطات والمضادات، ويتحول بعضها إلى أوبئة وجوائح تجتاح العالم كله، كما هو حاصل في سنتنا هذه (سنة الكورونا).
* نحن نشهد اليوم معركة عالمية ضد وباء كورونا؛ تذكرنا بما سبقها من لحظات تاريخية نادرة، توحدت فيها الإنسانية للتصدي والمقاومة، فالمصير المشترك؛ يدفع الجميع إلى التعاون؛ كل حسب قدراته وإمكاناته في محاربة الوباء، والبحث عن كل السبل الكفيلة لتحقيق ذلك، أو على الأقل اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع تكاثره وانتشاره، وذلك أضعف الإيمان. نشأ هذا الوعي الإنساني الاستثنائي بضرورة التوحد والتضامن، خوفًا من تكرار سيناريو تجارب سابقة لأوبئة وجوائح وأمراض، كلفت البشرية ملايين الأنفس.
* شهدت البشرية منذ آلاف ومئات السنين؛ أوبئة لا حصر لها مثل: وباء (الطاعون.. انطوني وجستياني، وأسود، ولندني عظيم، ودبلي، وغيره)، ووباء (الحمى الصفراء)، و(الجدري)، و(الكوليرا)، و(الإنفلونزا.. إسبانية وآسيوية وخنزيرية)، و(الإيدز)، و(أيبولا). وغير ذلك كثير. إلا أن أشد ما عانت منه البشرية من جوائح هو (الجوع).. نعم الجوع الذي لم يبق شعبًا على وجه البسيطة في منجى منه، والمفاجأة في جائحة الجوع الذي عمَّ العالم؛ أنه كان يظهر ويتكرر في البلد الواحد مرات عدة، فالصين هي البلد الوحيد الأكثر معاناة من الجوع في تاريخها قبل أن تعرف وباء كورونا في سنته هذه، والجوع وحده من بين كل ما عانت منه البشرية؛ أزهق أرواح ملايين البشر، ودفع الناس ليأكل بعضهم بعضًا كما حدث في مصر في العهد الفاطمي (الشدة المستنصرية)، وفي الجزيرة العربية قبل حوالي ألف سنة وأكثر؛ وقع جوع وقحط، اضطر معه الناس للهجرة منها - تغريبة الهلاليين مثالًا - أشار إلى هذا ابن خلدون في مقدمته، وقال: إنه مرت بالجزيرة العربية مجاعة وسنوات عجاف، حتى أكل الناس ورق الشجر، وهجرها كل ذي همة، فلم يبق فيها إلى أضعف الناس. الجوع عدو كافر. قال عنه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو كان الجوع رجلًا لقتلته).
* والجزيرة العربية كانت واحدة من مناطق العالم المجدبة والطاردة لقلة مائها، وجفاف أرضها، وتعرضت مثل غيرها لظروف قاسية مع أمراض وأوبئة وجوائح شتى، من أبرزها (الجوع، والجراد، والدبا، والحمى، والحصبة، وغيرها)، وكان الناس يؤرخون لحياتهم بهذه الحوادث التي لا تُنسى فيقولون: (سنة الجوع، وسنة الجراد، وسنة الدبا، والغرقة والحصبة والظلمة) وغيرها. فهذه سنة الكورونا، تضاف إذن لسنوات صعبة عرفناها وعرفها العالم معنا.
* إن معايشة الأمراض ومقاومة الأوبئة ومعاناة الجوائح؛ تدخل في صميم الحضارات الإنسانية، وتبرز ثقافيًا في سلوكها وفي آدابها رواية وشعرًا. نعرف كيف أن روائيين عالميين؛ جعلوا من بعض الأوبئة عناوين لأعمالهم الخالدة، فكتب (كامي) رواية: (الطاعون 1947)، وبعده بأربعة عقود كتب (غابريل جارسيا ماركيز) روايته: (الحب في زمن الكوليرا 1985)، وفي عام 1997؛ أبدع البرتغالي (خوسيه ساراماجو) في رائعته: (العمى)، فيما فضل آخرون أن يشكل الوباء مسارًا في صناعة أحداث رواياتهم، أو معركة تواجهها إحدى الشخصيات. كما في روايتي: (الحرافيش وخان الخليلي) للمصري نجيب محفوظ، وعند الروائي السوري حنا مينة في رائعة: (المصابيح الزرق)، التي قضى اثنان من أبطالها بمرض السل. واختار الروائي المغربي أحمد توفيق؛ أن يجمع في توليفة رائعة بين الجائحة والمرض في روايته: (جارات أبي موسى 1997)؛ وهي الرواية التاريخية الواقعية، التي تنقلنا بطلتها شامة إلى القرن الـ14 زمن الحكم المريني بالمغرب، أوج القلاقل السياسية والاضطرابات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية.
* وعلى مر تاريخهم؛ أبدع شعراء العربية في وصف معاناتهم مع أمراضهم ومنها الحمّى. يقول ابن شيرويه:
وزائرة تزور بلا رقيب
وتنزل بالفتى من غير حُبّهِ
وما أحد يحب القرب منها
ولا تحلو زيارتها لقلبه
تبيت بباطن الأحشاء منه
فيطلب بُعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتى
تنغصه بمأكله وشربه
أتت لزيارتي من غير وعد
وكم من زائر لا مرحبًا به
* ويقول المتنبي في الحمّى أيضًا:
وزائرتي كأن بها حياءً
فليس تزور إلا في الظلامِ
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شر
إذا ألفاك في الكُرب العظام
* وأشاع شعراء العربية القدامى؛ فكرة التشافي بالشعر، فهذا امرؤ القيس الذي يشار إليه بأنه أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى، هو أول من أشار إلى هذه الفكرة عن طريق البكاء والدموع. يقول:
وإن شفائي عبرة مهراقة فهل
عند رسم دارس من معوّل..؟
* أما مجنون ليلي فيقول:
فما أشرف الأيفاع إلا صبابة
ولا أنشد الأشعار إلا تداويا
* قريبًا بعون الله؛ يصبح مرض كورونا مرضًا تاريخيًا مثله مثل الجدري. نسأل الله الشفاء لكل مريض؛ وأن يلهم البشرية جمعاء؛ سبل الوقاية والقضاء على فايروس كورونا عاجلًا غير آجل.