د عبدالله بن أحمد الفيفي
في هذه الإطلالات على طلائع النصِّ النقديِّ في بدايات القرن الماضي، واستقراء البِنَى التأسيسيَّة لنقدنا العَرَبي الحديث، رأينا كيف سعَى (العقَّاد) و(المازني)، في كتابهما النقديِّ «الديوان»، إلى إسقاط بعض معاصريهما من كبار الأدباء. ولقد كان أوَّلُهما يتكلَّف ما يستطيع، وما لا يستطيع، لنفي شِعريَّة الشِّعر عن (أحمد شوقي)، بحقٍّ أو بباطل. حتى إنه لمَّا لم يجد ما يعيبه في إحدى قصائده، وهي قصيدته في «رثاء مصطفَى كامل، -1908»- وتُعَدُّ من أجود شِعره- رماها، في ما حاول رميها به، بالتفكُّك. كأنه (ابن طباطبا)، الجديد، في «عيار شِعره»، أو (قدامة بن جعفر)، في «نقد شِعره»، وقد أرادا مَنْطَقَة القصيد، والدعوة إلى تأليفه كالرسائل. مناديًا بتحويل القصيدة إلى بناءٍ ذهني، تحت ذريعةٍ جديدةٍ هذه المرَّة، استوردها عن أساتيذه من النقَّاد الإنجليز، اسمها «الوحدة الفنِّيَّة». بيدَ أنه لم يَفْقَه- فيما يبدو- أن الوحدة في الشِّعر غير الوحدة في النثر، فضلًا عن أنها غير الوحدة في العمل العِلمي. ولم يَعِ أنها وحدةٌ تُسهِم قراءة النصِّ في إنتاجها، وليست بمعطًى جاهزٍ يُزْلِفُه النصُّ، من تلقاء بنائه، في تسلسلٍ رياضي.
ولكي يُثبِت (العقَّاد) تفكُّك قصيدة (شوقي) عمل على قلب ترتيب أبياتها رأسًا على عقب، بُغية إقناع القارئ بأنه لا فرق بين ترتيبه المختلَق وترتيب شوقي؛ فعرضَ القصيدة في صورةٍ شوهاء مُمِلَّة. ليَدلَّ بترتيبه على أن التفكُّك لديه هو، لا في القصيدة! أمَّا لو أُخِذَ بمبدئه المجتلَب في رفض الوحدة البيتيَّة، فستكون في ذلك دعوةٌ إلى استبدال الشِّعر العربي كلِّه بشِعرٍ سردي، متَّسِق البناء على الطريقة العقَّاديَّة.
على أنه، لو أَنصفَ، لرأى قصيدة (شوقي) مؤلَّفةً من خمس لوحات، متعاقبة تعاقبًا متَّسقًا. حاسَها هو حوسًا مضحكًا حين أعاد ترتيبها، حتى صيَّرها بلا معنى، وأفضى هو- لا شوقي- إلى أن انتفت الوحدة الفنيَّة في القصيدة. وكأنما الذي أراد عيبَه لا يعدو إسقاطًا نفسيًّا، أو ذهنيًّا، لعيبٍ فيه هو، من عدم قراءة القصيدة إلَّا على أنها أبياتٌ منفصلٌ بعضها عن بعض، لا تنتظمها وحدة. فلقد جاءت قصيدة شوقي بالتدرُّج الآتي: 1- مناجاة الفقيد (مصطفَى كامل)، 2- ذِكر مآثره، 3- التأمُّل في دروس الموت والحياة واستخلاص العِبَر منهما، 4- التعبير عن فداحة الفقد الذي كاد يُلجِم الشاعر عن الرثاء أصلًا، 5- ليختم القصيدة بلوحة الوطن (مِصْر)، وهو يحتوي، ميتًا، طالما احتواه حيًّا. فأيُّ بناءٍ أكثر اتِّساقًا من هذا، لولا غلواء الخصومة؟! أمَّا أن يظلَّ في الإمكان نقل بيتٍ من مكانه، فأمرٌ طَبَعي، ليس شوقي بِدْعًا فيه بين الشعراء العرب. ولئن رآه السرديُّون النثريُّون عيبًا فنيًّا، فما هو بمعيبٍ في قراءات أخرى، قد ترى التفكُّك، في ذاته، مزيَّةً في العمل الفنِّي، من حيث هو صورةٌ للحالة النفسيَّة، متَّفقٌ مع وظيفة الفنِّ في التأثير الانفعالي، لا في التعليم والتلقين. ولأشياء من هذا التطلُّب للاتِّساق والتراتب رفضتْ الذهنياتُ التقليديَّةُ الفنونَ الحديثةَ أيضًا؛ لأنها حافلةٌ بالتفكُّك الظاهري، صادمةٌ لتوقُّعات المتلقِّي البنيويَّة الكسول. أضف إلى هذا أن أولئك السرديِّين النثريِّين، إذ يَعُدُّون ما يصفونه بالتفكُّك عيبًا فنيًّا لا يُغتفَر، قد لا يفرِّقون بين ضَربَين من الشِّعر: ضَربٍ ذاتيٍّ Subjective- وتلك المرونة البنائيَّة من خصائصه، في شِعر العالم أجمع، وليست علَّتُه من وحدة البيت الشِّعري بالضرورة- وضَربٍ آخَر موضوعي Objective، كان يوم أن كان الخطاب الأدبي جُلُّه شِعريًّا، أعني أيَّام المسرح الشِّعري، والملاحم الشِّعريَّة، والشِّعر القصصي، والشِّعر التعليمي. وهو ضَربٌ لم يعرفه الشِّعرُ العربيُّ قط، بما تعنيه الموضوعيَّة الشِّعريَّة من معنى لدَى الأُمم التي عرفتها، ولا سيما الإغريق. ولقد هجر الشِّعر الحديث ذلك الضَّربَ الموضوعيَّ، جملةً وتفصيلًا، لينتهي إلى ما كان عليه الشِّعر العربيُّ قبل نحو ألفَي عام، من الشِّعر الذاتيِّ الغنائيِّ، Lyric، الذي لا تحكمه سلاسل المنطق، ولا حبال التسلسل الموضوعي، وإنما تحكمه قفاتُ الخيال وتداعياتُ الشعور، لتأتي القراءاتُ المتعدِّدةُ فتُعيد إنشاءه، صورًا غير متناهيةٍ من الخَلْق. تُرَى ماذا كان سيفعل أرباب «الوحدة الفنيَّة»- التي نادى بها طليعيُّو النقاد العرب في مطالع القرن العشرين- بعقولهم لو شهدوا المدارس التي جدَّت بعدهم أو تطوَّرت، في الفنون والآداب، من رمزيَّة، وسُرياليَّة، وعبثيَّة أو لا معقول؟! لا ريب، إذن، أنها كانت ستعصف بأبراج عقولهم العاجيَّة، التي لم يَسلَم منها حتى شِعرنا العربيُّ القديم، ولا سيما في عصر ما قبل الإسلام، حين رموه كذلك بالتفكّ ُك، وأراحوا أنفسهم بوصف مبدعيه بالسذاجة والبدائيَّة والاضطراب البيئيِّ والذهني. والحقُّ أنَّ السذاجةَ إنَّما كانت لدَى مطلقي تلك الأحكام، وعيًا بطبيعة الشِّعر، والاضطرابَ إنَّما ظلَّ ينتابهم هم في فهم وظيفة الخطاب الشِّعري، قديمه والحديث!
أمَّا بقية تمحُّلات (العقَّاد)، ومغالطاته، واقتطاع الأبيات من سياقاتها النصِّية، وإعادة التماس ما كان يسمَّى قديمًا بـ»السرقات»- وإنْ على نحوٍ لم يكن يَعُدُّه القدماء أنفسهم من السَّرقات، لشيوعه أو لإحسان اللاحق فيه- أمَّا ذلك المعرض العريض الذي بسطَه لانتقاص قصيدة (شوقي) المشار إليها، فأهون شأنًا، بل بعضه بلا شأن. وسيطول بنا المقام لو تتبعنا نثار ما قال وكال، وما نريد أن نشابهه أيضًا في تكلُّف الحفر لاصطياد المثالب، التي لو كان كدَّ قريحته الشِّعريَّة بدل كدِّه وراء انتقاد شوقي، لربما كتب شِعرًا أشعر شيئًا من ذلك الذي كان يقرضه، تارةً في وصف كلبه «بيجو»، وتارةً في وصف الكروان، الذي دبَّج حوله ديوانًا كاملًا، سمَّاه «الكروانيـات». غير أننا سنضرب صفحًا عن ذلك بشاهدٍ واحدٍ هاهنا. قال (العقَّاد): «ومن هذه الإحالات هذه الفهاهة:
فَاصبِرْ عَلى نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسِها ... نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسُها سِيَّانِ.»
وعلَّق يسخر من شوقي: «والصبر على بؤس الحياة معروف، أمَّا الصبر على نعماها، فماذا هو؟! ولكن ويحنا! فقد نسينا أن المصائب والخيرات سيَّان، فلا غرابة في أن يصبر الإنسان على النعمة وأن تبطره المحنة. هكذا يقول شوقي، وما أصدقه! فإننا لا نرى منحة هي أشبه بالمحنة من هذا الشِّعر الذي أنعم الله به عليه. ولله في خلقه شؤون!» ثمَّ حين تعود إلى قصيدة شوقي تدرك أن العقَّاد قد اقتصَّ البيت من سياقه في القصيدة، وأن معناه وجيهٌ ضمن بنيته من النصِّ. المفارقة أن العقَّاد كان يتهم قصيدة شوقي بالتفكُّك، كما مرَّ، فاتضح أنه هو الذي يفكِّك القصيدة لينفذ إلى مَواطن ينتقد من خلالها الشاعر. يقول شوقي:
ومُنَعَّمٌ لَم يَلْقَ إِلَّا لَذَّةً ... في طَيِّها شَجَنٌ مِنَ الأَشجانِ
فَاصبِرْ عَلى نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسِها ... نُعْمَى الحَياةِ وبُؤسُها سِيَّانِ!
لكن العقَّاد لو ساق البيتَين، دون تفكيك، لاتَّضح المعنى، ولما بقي لنقده من معنى! على أن توقُّفه عند ما يدعوه «الإحالة»، يدلُّ- بصفةٍ خاصَّة- على أنه لا يقيم لطبيعة الشِّعر وزنًا؛ فلولا الإحالة، والنمذجة التخييليَّة، كاد الشِّعر يكون نثرًا، لولا الموسيقَى الشِّعريَّة؛ ولأضحى النَّظْمُ عندئذٍ شِعرًا، بما في ذلك ألفيَّة (ابن مالك) في عِلم النحو. والحقُّ أن شِعر العقَّاد نفسه لم يكن غير تطبيقٍ لرؤيته الغريبة تلك للشِّعر. ولا غرابة أن ينضح كلُّ إناءٍ بما فيه!(1)
... ... ...
(1) عن شِعره، يُنظَر كتابي: (2011)، شِعر النقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث).